شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاثنين 13 يناير 2025م01:08 بتوقيت القدس

"مفقودون" في غزة.. بين شقّي رحى!

12 يونيو 2024 - 12:08

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"رجاء لمن يجد أخي ماهر كحيل، هو مريض من ذوي الاحتياجات الخاصة، يرتدي بنطلون رمادي وبلوزة تخطيط عريض، خرج من منطقة قيزان النجار في خان يونس ولم يعد! أختي كل يوم بتطلع تدور عليه، كل يوم، كل ما يطلع النهار.. فقدناه في المنطقة اللي نزحنا إلها، اسمها قيزان النجار بخان يونس".

"هكذا دون مقدمات تقفز اللوعة في وجهك كقارئ! من هو؟ وماذا حدث معه؟ أين هو الآن؟ حي؟ ميت؟! جوعان؟ عطشان؟ نائم؟ قاعد؟ مريض؟"

تمرُّ على هذا الإعلان في "فيس بوك"، وهكذا دون مقدمات تقفز اللوعة في وجهك كقارئ! من هو؟ وماذا حدث معه؟ أين هو الآن؟ حي؟ ميت؟! جوعان؟ عطشان؟ نائم؟ قاعد؟ مريض؟ متعب؟ تائهٌ بين خيام النازحين؟ تائهٌ في شوارع المدينة المدمرة؟  هل يُعقل أن أحدًا لم يعرفه حتى الآن؟!

مشهد الارتباك في التفكير بأولويات النجاة. هذه المناشدة تصادفك في اليوم الأول، وتتجاهلها كإنسانٍ يحاول أن يرصد القتل المفجع وجرائم الإبادة الجماعية، والبيوت المبقورة التي أكلت أصحابها رغمًا عنهم، حين فكروا بتركها وحيدةً في الحرب!

ترصد سياسة التجويع والتعطيش، وتفكّر بمئات الآلاف ممن أُجبروا على النزوح لأماكن تبدو الصحراء أفضل منها، فلا مقومات حياة، ولا ماء نظيف، ولا ماء غير نظيف حتى..! فقط، الحشرات تنتشر ليلًا، والبرد يقرص جلد الناس فجرًا، أما في النهار فلهيبٌ وخيامٌ تصبح كما الأفران!

ليس لديكَ متّسعٌ من الوقت لتفحص ما يحدث في منطقة سكناك، فالضربات المتتالية والقصف والانفجارات تجعل قلبك يقفز أمامك كل لحظةٍ خائفًا من أن تفقد الأمل الأخير، أن يبقى بيتك واقفًا على قدميه مواجهًا آلة القتل الإسرائيلية بصواريخها وعتادها الأمريكي القذر!

تطالعُ المناشدة ذاتها، "ماهر فقدناه في منطقة قيزان النجار"، ثم تعود لتراها متكررة للمرة العاشرة، وهذه المرة مع مكافأة لمن يجده! يا إلهي، أين ماهر الآن؟ هل ذهب إلى غزة كما أخبر شقيقته قبل أن يختفي "أريد بيتي فلم أعد أطيق حياة النزوح"، هل مضى وراء الضوء كما يحدث في أحلام الأطفال الصغار؟

تقول الزميلة الإعلامية ميسون كحيل (أخته) بعدما نشرَت المناشدة عشرات المرات: "في 13 من تشرين الأول/أكتوبر لعام 2023م، نزحنا من بيتنا في قلب مدينة غزة نحو مدينة رفح، حيث يوجد لأختي شقة هناك. نزحتُ مع شقيقتي الصيدلانية و3 أشقاء آخرين، من بينهم أخي الكبير ماهر، واستمرَّ وجودُنا في رفح إلى ما قبل اجتياح المدينة في شهر أيار/مايو 2024م".

وتابعت: "أخي الصغير رائد، توجه بهم إلى منطقة قيزان النجار في خان يونس عقب إلقاء المنشورات. هناك بيت "عديله" حيث استقبلهم الرجل بترحاب، ونصب أخي رائد خيمة على باب البيت ينام فيها هو وأخي ماهر".

تتابع ميسون بحرقة: "في يوم ١٦ مايو استيقظ ماهر ليقضي حاجته، فأخذه رائد إلى الحمام وأعاده، وعندما شعر أن ماهر استغرق بالنوم، نام هو الآخر إلى جانبه، مضى وقت لم يقدره أحد إلى أن جاءت أختي الساعة السابعة صباحًا لإعطائه الدواء، فهو أيضًا مريض سكري، لكنها لم تجده، بحثوا عنه في كل مكان ولم يجدوه".

توجه رائد بعدها إلى رفح للبحث عنه ولم يجده، وتوجه نحو خان يونس ولم يجده. ذاب كالملح، توجهوا للمستشفيات للبحث عنه ولم يجدوه، سألوا الصليب الأحمر، أبلغوهم أنه لم يتم اعتقاله، ظل البحث مستمرًا بين مدينتين، إحداهما مدمرة، والثانية تتأهب للالتحام مع موت قادم! وماهر بينهما تائه وأهله بقلوب مفطورة لا يعرفون مصيره!

لغاية اليوم يذهبون للبحث عنه، لكن هناك معضلة عدم وجود وسائل نقل، مما يجبرهم على السير لمسافات طويلة في ظل الحر الشديد، هو كان يطلب كثيرَا العودة إلى الحارة والبيت في غزة، حاول عدة مرات الهرب لكن كانت عائلته نتمكن من إعادته (في إحدى المرات ببداية الحرب وصل إلى الحدود المصرية تقريبًا)، لكن في ظل وجود سيارات ووقود في ذلك الوقت، تمكنت العائلة من إعادته.

تصمت ميسون ولوعتها تصل عنان السماء، فما بين تيه الحياة وتيه الحرب ومعركةٍ لم تنتهِ بعد، لا ترى سوى صورة ماهر وحيدًا!

تصمت ميسون ولوعتها تصل عنان السماء، فما بين تيه الحياة وتيه الحرب ومعركةٍ لم تنتهِ بعد، لا ترى سوى صورة ماهر وحيدًا.

ماهر ليس المفقود الوحيد في حرب الإبادة على غزة، ولم يكن ملف المفقودين يحظى بأولويةٍ قصوى بفعل بشاعة الجرائم والمجازر التي ترتكب بحق أهلنا وشعبنا في قطاع غزة، فالناس ينزحون عدة مرات بفعل القصف والتهديدات المتواصلة بالإخلاء الإجباري من الجيش الإسرائيلي.

بعضهم نزح 6 مرات متتالية ولم يسعفه أن يجد أمنًا أو أمانًا في أي مكان، وآخرها تهديدات مدينة رفح! حجمُ المعاناة التي يعانيها الغزيون لم تسمح إلا بعد وقتٍ طويل بأولوية السؤال عن مفقوديهم، ومعرفة مصيرهم، ومن سيهتمُّ أو يساعد بينما الموت يعصفُ بكل تفاصيل حياة الغزيين، ومن كان ناجيًا بعد برهةٍ يغدو قتيلًا وشهيدًا ومبتورًا ونازحًا!  

هنالك عشرات المناشدات التي تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات الصحافية للبحث عن ذويهم، يزداد المشهد تعقيدا بفعل قطع الاتصالات وصعوبة الوصول لشبكة انترنت في كافة الأماكن، كما أن مشهد النزوح المستمر لم يجعل من السهل توثيق صور المفقودين وأرقام للوصول لذويهم....

الطفلة ريهام نحيلة الجسد، تتراقص ما بين الخيام في منطقة مواصي رفح، تتجاهل الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء المدينة بعد أن اكتشفت "تلة الرمل"، لتعيد إحياء قدرتها على اللعب من جديد بعد أن فقدت كل ألعابها في حربٍ لا إنسانية، لا تعرف ما يريده الطفل وما يتمناه: أن تنام لعبته إلى جواره؛ ليمنحها الحب والحنان والدلال ويشعر أنه مهم للآخرين.

هكذا هي لعبة ريهام التي سقطت كما مئات الآلاف من الأجساد في حرب إبادة لم تتوقف، ريهام تتقافز كفراشة. تكاد تكون راقصة باليه بسبب الرمل الناعم الذي يلسع أقدامها الصغيرة من شدة سخونته، تتقافز ليلًا أيضًا بفعل قرص الحشرات التي تملأ الخيمة، تتقافز أيضًا كلما قصفت الطائرات بيتًا أو قلبًا جديدًا بجوار مكان سكناهم، تتقافز وهي نائمة خوفًا من جنون الحرب التي لم ترحم طفولتها. ريهام ذات الأربع سنوات لم تنم ليلتها ما بين قفزٍ حقيقيٍ وقفزٍ في الكوابيس التي نالت منها في ليالي الحرب القاسية. خرجت للتلة القريبة من خيمتهم وهي ترتدي فانيلا بيضاء مخططة بالأورانج، وبنطال أسود.

تبدو كما دميتها التي رحلت وتركتها، تحاول أن تلعب رغم قسوة الليل وقسوة النهار، ريهام لم تعد أبدًا لمكان الخيمة، ولم يعثر عليها أحد، نادوا بمكبرات الصوت، وبحثوا بين الخيام والبيوت المدمرة، عفروا أقدامهم بالرمل الساخن تارة والرمل المثلج تارة أخرى، وساروا مسافات طويلة ليلًا ونهارًا. بحثوا في المشافي المتهالكة، لكن أحدًا لم يسمع النداء، فهول يوم القيامة الغزاوي لم يترك أحدًا في حياته البسيطة، ولم يترك حجرًا على حجر، ولم يترك عائلةً واحدةً تنجو من هول الجحيم الغزي.. الطفلة ريهام أحمد سلمان الحلولي، لم تعد بينما الحرب لم تتوقف بعد!

عشرات، بل مئات المناشدات اليومية التي تصلنا ونعيد نشرها لأطفالٍ وأبناءٍ وبناتٍ وأمهاتٍ وأخوةٍ وأخوات، لم يعرف أهاليهم مصيرهم حتى الآن، وما زالوا يبحثون عنه بين دفاتر الذكريات، التي بدأت تتشكل بفعل الحرب المستمرة. أين يبحثون؟ على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا يراها أغلب الغزيين؟ يبحثون بينما لا يتوفر الإنترنت ولا الاتصالات، ولا المناشدات تصل لأحد! حتى أرقام الهواتف والجوالات ليست الطريقة الأنجع ليعرف أحد معلومات عن أحبائهم، فهي غالبًا خارج الخدمة أو لا يمكن إليها الوصول؟! أي حالٍ بائسٍ هذا الذي يحيط بالأحبة؟! كيف تنفطر قلوبهم كل لحظةٍ وكل ساعةٍ وهم تائهون عن أحبابهم لا يعرفون لهم طريقًا؟!

كاريكاتـــــير