غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
حين دخل الخيمة، ساد الوجوم كل من في المكان. بعضهم نزلت دموعه دون أن يشعر، وبعضهم فرك عينه متسائلًا بحرقة: "هذا مصطفى؟.. حقًا؟".
كان يشبه الشبح -وصفه أحدهم- بوجهٍ شاحبٍ وآثار ندوبٍ وكدمات، عينان جاحظتان، غائرتان، دامعتان، وقوىً خارت بمجرد أن وصل الخيمة.
الطبيب مصطفى صيام (30 عامًا)، صاحب الوجه البشوش والهندام الأنيق والطلة البهية، وآخر عنقود أسرةٍ مزقت الحرب أوصالها، بعدما نزح برفقة إخوته وأخواته نحو الجنوب، وبقي والداه في الشمال، يكابدون الجوع والموت البطيء.
اعتقل صيام من مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ومكث قرابة (54) يومًا في سجن النقب، إلى أن تم إطلاق سراحه في الأول من مايو الماضي.
اعتقل صيام من داخل مقر عمله في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ومكث قرابة (54) يومًا في سجن النقب إلى أن تم إطلاق سراحه في الأول من مايو/ آيار الماضي، فعاد إلى بيته الطارئ في خيمةٍ قماشية على تخوم مدينة دير البلح وسط القطاع.
يحاول مصطفى بعد كل ما عايشه خلال فترة اعتقاله، أن يسترد عافية بسمته، رغم أنه كلما عادت به الذاكرة إلى تلك الفترة العصيبة، وجمَ وشرد بذهنه، وتذكّر من كانوا معه وبقوا هناك ينتظرون فرج الله.
يبدأ سرد حكايته لـ"نوى" فيقول: "مع أول أيام اندلاع الحرب، التحقتُ للعمل في مستشفى الشفاء الحكومي كطبيب متطوع، وبقيتُ هناك حتى اعتُقلتُ في 21 من مارس/ آذار الماضي".
داخل "الشفاء" عاش الطبيب صيام مواقف صعبةً للغاية، ككل الأطباء والنازحين هناك. كان المجمع الطبي يكتظ بالهاربين من الأحزمة النارية، وويلات الحرب، الذين تكدسوا بالآلاف في الساحات الخارجية والممرات، وعند أبواب الأقسام، وغرف العمليات.
مع كل روحٍ كانت تخرج من جسد صاحبها، كانت قلوبنا تتمزّق لأننا لم نستطع أن نفعل الكثير أمام فتك الأسلحة المستخدمة.
ويشرح: "كنا نجري العمليات الجراحية على مدار الساعة. كان علينا التعامل مع حالات طبية معقدة وفي الغالب كانت الإصابات التي تأتي بها عربات الإسعاف بالغة الخطورة، ومعظمها ميؤوسٌ منها، ومع كل روحٍ كانت تخرج من جسد صاحبها، كانت قلوبنا تتمزّق لأننا لم نستطع أن نفعل الكثير أمام فتك الأسلحة المستخدمة".
كانت الإصابات تتفاوت بين تهتك العظام، وتمزق الأنسجة وتلفها، وذوبان الجلد، والحروق الشديدة، وهذا كان يعقد الحل طبيًا، ناهيكم عن النقص الشديد في الأدوات اللازمة، وشح الوقود، وانقطاع الكهرباء والماء، والتهديدات المستمرة باجتياح المجمع الطبي الأكبر في غزة.
بالفعل، جاء ذلك اليوم، وحوصر مجمع الشفاء. "كل البيوت حوله كانت تنهار وتحترق من كثافة النيران، والجميع يركض ويختبئ داخل غرف المستشفى، وخلف الأبواب! كانت مشاهد تفوق قدرة البشر على التخيل. وكأنها أهوال يوم القيامة" يصف الحال آنذاك.
"الجثث تناثرت في كل مكان، الجدران انهارت، والأقسام احترقت بنيران القذائف. حتى الأحياء كانوا يركضون في كل اتجاهٍ ويصرخون لا يعرفون لهم وجهة".
ويكمل بدموعٍ انهمرت رغم محاولاته كبحها: "الجثث تناثرت في كل مكان، الجدران انهارت، والأقسام احترقت بنيران القذائف. الأحياء يركضون في كل اتجاهٍ ويصرخون لا يعرفون لهم وجهة. هكذا حتى أخيرًا اقتحموا المجمع".
قسمت قوات الاحتلال المتواجدين داخل المشفى لمجموعات، كل واحدة خمسة أشخاص، وأخضعتهم لفحص بصمة العين، فمن يُسمح له بالخروج بعدها يُجبر قسرًا على النزوح نحو الجنوب، ومن يحدده الجهاز "مطلوبًا للتحقيق" يُعتقل!
يضيف صيام: "بعض النساء أُغمي عليهن من شدة الخوف، فالمزاجية الإسرائيلية كانت أحيانًا تقود إلى اعتقال أشخاص لمجرد التسلية"، متابعًا بحرقة: "حين اقتحمت القوات المشفى، نادوا علينا نحن الأطباء، وطالبونا بتسليم أنفسنا. دفعونا نحو الجدران، وجردونا من ملابسنا، وصورونا، وفحصونا من خلال بصمة العين، ثم عصبوا أعيننا، وكبلوا أيدينا، وزجوا بنا داخل شاحنات، ثم اقتادونا إلى سجن النقب الصحراوي".
أصابت مصطفى في تلك الفترة، حالة من فقد السيطرة على النفس! شعر بفقدان الذاكرة، وعدم القدرة على ربط الأحداث بالزمن، كاد -حرفيًا- أن يفقد عقله من شدة الضرب.
أصابت مصطفى في تلك الفترة، حالة من فقد السيطرة على النفس! شعر بفقدان الذاكرة، وعدم القدرة على ربط الأحداث بالزمن، كاد -حرفيًا- أن يفقد عقله من شدة الضرب والعنف النفسي الذي عاشه، وما كان يؤرقه أكثر هو أنه لم يكن يدري عما يحدث في غزة شيئًا، وحرفيًا كان يصف حاله بـعبارة "الموتُ أهون".
يقول: "في كل مرة كانت توضع العصبة فيها على عيني، أشعر بالعالم معتمًا أسود. أتلقى الضربات من كل حدبٍ وصوب على رأسي وسائر جسدي، وأنا مكبل اليدين، أسمع شتائمنابية، وأُقاد إلى حيث لا أعلم".
قضى الطبيب في سجن النقب الصحراوي 54 يومًا، قبل أن يُخلى سبيله، خرجَ مشبعًا بذكريات يمكن أن تعيش معه العمر كله، من الشبح، والإجبار على الوقوف لأيام، والحرمان من النوم، ومجابهة الكلاب البوليسية المسعورة، والشتم، والتجويع، والمنع من استخدام المرحاض القذر أصلًا، الذي يخلو من الماء والصابون والمناديل، ولا يصلح لقضاء الحاجة.
"حتى الصلاة، كانوا لا يتورعون عن حرماننا من أدائها، وأحيانًا يمنعوننا من السجود" يعقب بقهر.
التحقيق مع الأطباء كان يتم بصورةٍ انفرادية، والتهمة موحدة "تعالجون رجال المقاومة"، أو "المخربين الإرهابيين" على حد تعبير الضباط الإسرائيليين، "وتتسترون عليهم داخل المستشفى، بالإضافة لتهم أخرى لا أساس لها من الصحة" يخبرنا.
داخل المعتقل الصحراوي، كان الوقت يمر ثقيلًا. المعاناة تتضاعف مع مرور كل دقيقة جراء الحرمان الدائم من النوم والشعور بالجوع وآلام الجسد المبرحة والتعذيب.
"ذات مرة، تم شبحي فترة طويلة، وكنت مكبل اليدين، معصوب العينين، سحلوني على الأرض، وضربوني بالهراوات والبساطير فكُسرت يدي. طلبتُ تجبيرها فرفضوا".
"ذات مرة، أثناء التحقيق، تم شبحي فترة طويلة، وكنت مكبل اليدين، معصوب العينين، سحلوني بعدها على الأرض، وضربوني بالهراوات والأقدام على وجهي، وصدري، وظهري، وسائر أنحار جسدي. كُسرت يدي، وطلبت العلاج لكنهم رفضوا وأعطوني لفافة طبية فقط، فعالجتُ نفسي، ولففت اللفافة حول يدي حتى جُبر كسرها بعد أيام".
يعلم الطبيب مصطفى صيام، أن الكثير من الأطباء تعرضوا لإهانات كثيرة، وضرب، وتكسير عظام، من أجل انتزاع أية معلومات منهم، وهذا كان له أثره النفسي عليهم. يعلق بالقول: "في اليوم الذي انتهى فيه التحقيق معي، وبعدما لم يجدوا لدي ما يفيدهم، نقلوني لمعتقلٍ آخر، مزود بالأسرّة، والحمامات النظيفة، والطعام والشراب! مكثتُ هناك عدة أيام معصوب العينين مكبلًا، وفي لحظةٍ جاءني ضابط، قادني بقوة، فسألته: ما تاريخ اليوم؟ وكم الساعة؟ لم يجبني! وأخرجني ثم أغلق خلفي الباب. حينها فركت عينيّ بقوة، وحجبت عنهما ضوء الشمس الذي حرمت منه طوال تلك الأيام. بكيتُ كثيرًا غير مصدقٍ أنني أخيرًا صرتٌ حرًا طليقًا، وعُدتُ إلى حيث إخوتي وأخواتي هنا في مخيمات النزوح".