غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
رحلة نزوحٍ شاقّة من معسكر الشاطئ غربي مدينة غزة إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، تقول إيناس أبو عميرة: "رأيت خلالها مشاهد مرعبة لأشخاص أعدمهم الاحتلال أمام عيني، وجثثًا منتفخة وأخرى متحللة".
إلى هنا، والأقسى لم يأتِ بعد، فالسيدة التي وصلت وسط القطاع منهكةً اكتشفت بالتزامن أنها حامل! مرّت الأشهر تحت النار ثقالًا حتى وضعت قبل الأوان، طفلةً مشوّهةً قال الأطباء إن تشوهها ناتجٌ عن استنشاق الغاز السام، لتتوفّى بعدها تاركةً في قلب أمها حسرة البداية والنهاية في آنٍ معًا.
في مخيمٍ للنازحين قرب منطقة البركة بدير البلح، تجلس السيدة المكناة أم محمد أمام موقدٍ حديديٍ صنعه زوجها، تحاول طهي بعض الطعام لعائلتها المكونة من 9 أفراد (هي وزوجها ووالدته وأبناءها: أربعة ذكور وفتاتين).
وتخبرنا: "حين طالبَ الاحتلال سكّان شمال قطاع غزة بالنزوح إلى الجنوب بقيت في بيتي، لأنني وزوجي لم نتوقع أن تطول الحرب ويحدث كل هذا، وبعد بدء الهجوم البري أواخر أكتوبر، طالب الاحتلال مربعنا السكني بالإخلاء، فنزحنا كلنا إلى العيادة الموجودة في معسكر الشاطئ".
آلاف المواطنين نزحوا إلى تلك العيادة الصغيرة، بينما باشر الاحتلال قصف المناطق التي نزحوا منها. خرج الناس ليلًا وسط الرعب وقصف الطيران وتحليق طائرات "كواد كابتر" التي تطلق النار على كل جسمٍ متحرك، وداخل العيادة، عايشت إيناس وعائلتها رعبًا جديدًا.
تقول: "مكثنا 27 يومًا، كان صوت القصف وإطلاق النار لا يتوقّف، نظرتُ مرّةً من الشُبّاك فشاهدت شابًا كان يمر بالشارع أطلقت الطائرة النار عليه وسقط على الأرض شهيدًا. أغرق دمه الأسفلت، رأينا مثل هذه المشاهد مرات عديدة، كانوا يطلقون الغاز وقنابل الفسفور، وتعرضت للإغماء أكثر من مرة من قوة رائحة الغاز، ولم أكن أعرف أني حامل".
قطع الاحتلال المياه وقصفوا لوحات الطاقة الشمسية الخاصة بالعيادة التي تضم آلاف النازحين، وتعرض الناس للتجويع والعطش وإطلاق النار، فاضطرت العائلات للنزوح مجددًا بحثًا عن مكانٍ أكثر أمنًا وسط مدينةٍ تخلو تمامًا من أي أمان".
تكمل: "هربنا سيرًا على الأقدام إلى مستشفى الشفاء، في رحلة موتٍ استغرقتْ نحو ساعة وسط الخوف، حتى التقينا برجلٍ نقلنا بسيارته إلى مكانٍ قريبٍ من دوار الكويت شرقي مدينة غزة، من أجل النزوح إلى الجنوب".
حدث هذا مطلع نوفمبر 2023م، حين مرّت العائلة عبر حاجزٍ شرقي مدينة غزة يسيطر عليه الاحتلال.
على جوانب الطريق شاهدَت إيناس جثثًا متحللة، وأخرى منتفخة، وذاك نصف جسد سوّده الاحتراق، وجثة بلا رأس!
على جوانب الطريق شاهدَت إيناس جثثًا متحللة، وأخرى منتفخة، وذاك نصف جسد سوّده الاحتراق، وجثة بلا رأس، وفوق كل هذا كان عليها أن تجري بأطفالها بينما يتواصل إطلاق النار صوب النازحين الذين يمرّون عبر الحاجز.
تكمل: "زوجي كان يحمل طفلتي مسك البالغة من العمر 9 شهور حينها، أغمي عليها من شدّة الحر، حتى وصلنا إلى دير البلح، واستضافتنا عائلة مدة شهرٍ ثم أقمنا خيمة في هذا المخيم للنازحين، بعد أن حصلنا على أخشابٍ وشوادر من جمعية تبرعت بها".
في مخيم البخاري للنازحين، لجأت السيدة إيناس إلى العيادة لفحص معاناتها من ألم وحركة غريبة في البطن، لتكتشف أنها حامل، ثم تبيّن تعرّض الجنين للتشوه، وأخبروها أن سبب تشوّه الجنين هو استنشاقها الغاز السام، وغاز الفوسفور الذي قصفوا به مناطق قريبة من مكان سكنها خلال وجودها شمالي القطاع.
وضعت طفلة كان رأسها مكتملًا حتى الحاجبين، ولم يكن هناك دماغ. عاشت خمس ساعات وتوفيت بعدها تاركةً في قلب أمها حرقةً وحسرة.
تواصل: "اضطرت المستشفى لتحويلي للولادة القيصرية، وهناك وضعت طفلة كان رأسها مكتملًا حتى الحاجبين، ولم يكن هناك دماغ. عاشت خمس ساعات رغم أن الأطباء توقّعوا أن تتوفى فور خروجها من الرحم (..) بعد الولادة عانيتُ من حالةٍ نفسيةٍ سيئة، وسوء التغذية، إذ كنت أعيش على المعلبّات، وكانت بناتي هنّ من يساعدنني".
تشتكي إيناس من صعوبة المعيشة في الخيام، فهم يعتمدون بشكلٍ رئيسٍ على ما تقدّمه التِّكيات، فيضطر أبناؤها محمد وموسى (16-15 عامًا) للعمل في بيع المخبوزات من أجل الحصول على بضعة شواقل، تساعدهم على توفير بعض الاحتياجات المهمة، خاصةً بالنسبة لوالدة زوجها التي تعاني من تليّفٍ في الرئتين، وصعوباتٍ في التنفس.
تزيد: "كان لدينا بيتًا من خمسة طوابق، أعيش فيه أنا وأشقاء زوجي، انتهيتُ من تشطيب شقتي قبل الحرب بمدّة، حماتي (والدة الزوج) كان لها شقة خاصة بها ومعها ابنها العازب، وفيها مروحتان إحداهما تعمل بالبطارية بمجرد انقطاع الكهرباء، لأنها تعاني من ضيق التنفس، لكنها اليوم محرومة حتى من المروحة، ونضطر لعدم إغلاق شادر الخيمة بشكل كامل علّه يُدخِل لها بعض الهواء".
ما إن بكت إيناس تدمير بيتها الذي قضت عُمرًا في تأسيسه حتى تدخّل طفلها موسى قائلًا: "الحمد لله يا إمي أننا كلنا بخير، ويا رب نرجع كلنا بالسلامة".
ويكمل موسى: "أتذكر بيتي جيدًا وأتمنى رؤية غرفتي ووسادتي، أنا هنا أعيش حياةً صعبةً في الخيمة، وأضطر لبيع المخبوزات كي أوفر لجدتي ثمن البيض، فصحتها لا تتحمل طعام التكيات".
كان موسى يتحدث بلهجة تفوق عمره، وأضاف: "أنا مستعد للعمل أكثر من أجل عائلتي".
"ابنتي توفيت وقالوا لي شهيدة، هي شهيدة وعوضي على الله".
كان زوج إيناس ينوب عنها في الطهي للعائلة، ولدى دخوله الخيمة للاطمئنان أن دخان النار لم يصل لأمه، شارك في الحوار بقوله: "ابنتي توفيت وقالوا لي شهيدة، هي شهيدة وعوضي على الله".
تختم إيناس: "زوجي أساسًا جريح منذ عام 2008م، لم يتقاضى راتبه منذ شهور، الخصوصية في الخيام معدومة، ولكن أتحمل على أمل أن نعود إلى غزة ونعيد إعمار بيوتنا".