غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
على حافة الرصيف المقابل لمجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، تتوقف حافلة كبيرة بألوان زاهية، تتناقض تمامًا وحالة البؤس التي تحياها عائلة الفلسطينية خلود أبو لطيفة، التي تعيش فيها ويلات النزوح منذ اندلاع الحرب!
يعمل علي أبو لطيفة، زوج خلود، سائقًا لصالح شركة نقل محلية، أودعت حافلاتها "أمانة" -بحسب وصفه- لدى السائقين الذين يعملون معها، رغبةً منها في عدم الاحتفاظ بها كلها في مكانٍ واحد، خشيةً عليها من التدمير، خاصةً بعد بدء الاجتياح البري لمدينة غزة، وشمالي القطاع.
لا يمكن للمارين من أمام هذه الحافلة المتوقفة منذ نحو شهر في الجهة الشرقية لمجمع ناصر الطبي، أن يتخيلوا أنها ملاذ أسرةٍ مكونةٍ من الزوج وزوجته وطفليهما زين وأسيل، ووالد الزوج المريض، وهو جزء أصيل من الحكاية.
واختار علي أبو لطيفة (38 عامًا) مكان استقرار حافلته قرب مجمع ناصر الطبي، مراعاةً للحالة الصحية لوالده المريض بالفشل الكلوي، إضافة إلى أمراض أخرى أنهكت جسده، ويحتاج معها إلى التدخل الطبي السريع في أية لحظة. أقرب مثالٍ على ذلك ما حدث معه قبل أيام، مع انتصاف الليل، حينما عانى من آلامٍ شديدة، واضطُر ابنه علي إلى دفعه بواسطة كرسيٍ متحرك لقسم الاستقبال والطوارئ بالمجمع.
منذ نزوحها الأول من بلدة عبسان الصغيرة شرقي خان يونس، إلى مناطق غربي المدينة، خاضت أسرة أبو لطيفة تجربة النزوح مرات عدة، قبل أن يستقر بها الحال أمام مجمع ناصر، إثر نزوحها الأخير من مدينة رفح على وقع عملية عسكرية إسرائيلية برية بدأتها قوات الاحتلال في هذه المدينة الواقعة على الحدود مع مصر، بتاريخ السابع من مايو/أيار الماضي.
وبقطعتين باليتين من القماش وضعتهما هذه الأسرة في مقدمة الحافلة ومؤخرتها لتغطية المسافة بين الباص وجدار مدرسة ملاصقة للرصيف، صنعت العائلة فناء منزل. تقول خلود، التي لا تخلع عن رأسها وجسدها رداء الصلاة طوال ساعات الليل والنهار: "نحن نعيش بالشارع حرفيًا".
تصف هذه الأم (35 عامًا) تجربة الإقامة المتنقلة في الحافلة على مدار 8 شهور بـ"المريرة"، لكنها تبدي قدرًا كبيرًا من الصبر، وتعدُّ حالها وأسرتها أفضل من الحياة البائسة للنازحين في الخيام، الذي يعانون ويلات الحرِّ الشديد، وقلة النظافة، وتفشّي الأمراض والأوبئة.
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن زهاء 85% من التعداد الكلي لسكان قطاع غزة، المقدر بنحو 2.2 مليون نسمة، نزحوا ولو لمرة واحدة منذ اندلاع الحرب.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن زهاء 85% من التعداد الكلي لسكان قطاع غزة المقدر بنحو 2.2 مليون نسمة قد نزحوا ولو لمرة واحدة منذ اندلاع الحرب، وأن 1.7 مليون نسمة منهم يقيمون حاليًا في خيام ومراكز الإيواء بمدينة خان يونس ومواصيها، والمنطقة الوسطى من القطاع، بعد النزوح الكبير من مدينة رفح.
وأشارت خلود التي تفضل وزوجها تكنيتهما باسم البنت البكر "أسيل"، إلى أنها لا ترتاح طوال ساعات النهار إلا لفترات قليلة، ولا تتوقف عن تنظيف الرصيف والحافلة، جرّاء الأتربة والغبار المتطاير من الشارع المدمر، وحركة الناس والمارة والسيارات، ثم ألقت نظرة واسعة في محيط المكان، وتضرّعت إلى الله بقولها: "يا رب الصبر من عندك".
ورغم تدمير منزلها في عبسان الصغيرة والتشرد من مكان إلى مكان، وضيق الحال اقتصاديًا، إلا أن "أم أسيل" تبذل جهودًا مضنية للتخفيف عن أسرتها، وتبذل كل جهدها لتوفير أجواء نظيفة لطفليها أسيل وزين، ورغم حالة الإرهاق التي نالت من ملامح وجهها، تقول: "الحمد لله على كل حال، وما في حدا بغزة إلا وأوجعته الحرب في ماله أو عياله، ونتمنى أن تنتهي وتتوقف هذه المعاناة".
وخصصت خلود "كابينة" الحافلة الجانبية لنوم طفليها، وقد حولتها إلى ما يشبه "غرفة النوم"، فيما تحتفظ بالدقيق والمواد التموينية على مقاعد الحافلة، وتستغل جانباً من الرصيف لغسل الملابس ونشره، وفي الجانب المقابل له خصصته كمطبخ تطهو به الطعام على موقد بدائي بواسطة الحطب والأخشاب، في ظل أزمة وقود وغاز طهي حادة، جراء قيود تفرضها قوات الاحتلال على معبري رفح البري مع مصر وكرم أبو سالم التجاري.
"وأين تستحمون؟"، أشارت خلود إلى درجات الصعود إلى الحافلة وقالت: "هنا أستحمم أنا، والأولاد يستحمون في الممر بين مقاعد الباص".
"وأين تستحمون؟"، أشارت خلود إلى درجات الصعود إلى الحافلة وقالت: "هنا أستحمم أنا، والأولاد يستحمون في الممر بين مقاعد الباص".
ويعدُّ الوصول إلى المياه العذبة الصالحة للشرب، والمياه اللازمة للنظافة الشخصية والاستخدامات المنزلية، أحد أهم التحديات التي يواجهها الغزّيون في ظل الحرب، وقبل بضعة أيام قالت المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية حنان بلخي "إن الحرب كان لها أثر مدمر على تدابير الصحة العامة الأساسية، مثل المياه النظيفة والغذاء الصحي والتحصينات الروتينية، وهو ما جعل الأطفال عرضة للإصابة بالحصبة وجدري الماء والإسهال وأمراض الجهاز التنفسي.
وتتملك الخشية خلود على ابنتها أسيل التي أنجبتها بعد 10 سنوات من الزواج عن طريق التخصيب الصناعي، فيما أنجبت ابنها زين بشكل طبيعي بعدها بأربع سنوات وتعتبره "هدية من الله" تقديرًا لمعاملتها الحسنة مع والد زوجها المريض".
وتقول: "لا أريد من الدنيا شيئًا إلا أن تنتهي الحرب، ولا أرى مكروهًا يصيب أسرتي.. أحلم بمنزل يؤويني وأسرتي وأطفالي، يكفي ما ابتلعته هذه الحرب من أعمارنا وأحبابنا".