غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تقول سيدةٌ كانت تسند رأسها على عامودٍ يرفع خيمتها في منطقة مواصي خان يونس جنوبيَّ قطاع غزة: "لطالما تخيّلتُ المشهد. كنتُ أرى جدتي وسط جحافل الفارين من الموت في المجدل، تحمل أمي وأخوالي وتهرول نحو غزة أملًا في النجاة".
وتتابع أم محمد زقوت: "كانت ستي بنت عز. كانت عائلتها تملك مصنعًا للنول وصناعة البُسط هناك. كل هذا خسرته في غمضة عين، يوم تشبّثت بطرف ثوب زوجها الذي فرَّ من عصابات الهاجاناه الصهيونية، التي هاجمت القرى والمدن وقتلت من قابلتهم فيها أطفالًا وشيوخًا ونساءً".
"ها نحن نعيش نفس الظرف. ألا نشبه الصور في أرشيف النكبة؟"
تبتسم السيدة بقهرٍ، وتتجول بنظرها في المخيم المكتظِّ بالناس الذين أنهكتهم شمس الصيف، وأمراض العيش في الخيام، وتزيد متسائلةً: "ها نحن نعيش نفس الظرف. ألا نشبه الصور في أرشيف النكبة؟".
تخبرنا أم محمد، أن جدّتها كانت في كل ليلةٍ قبل أن يتوفاها الله، تحدّثهم عن قريتها التي قضت فيها "أحلى طفولة". فتقول: "كانت تخبرني عن أرض البرتقال الخاصة بجدي، ومصنع النول، وصناعة البُسط. كانت تقول لي إنها لن تترك مخيم الشاطئ حيث كُنا نعيش (مؤقتًا) إلا إلى المجدل، مهما كان الثمن".
تحمد السيدة الخمسينية الله، اليوم، لأن جدتها توفيت قبل أن تشهد "نكبةً ثانية"، أصعب وأقوى من نكبة عام 1948م، "ولعلها ما كانت لتنزح معنا أصلًا".
في مخيمٍ آخر أقامه مواطنون في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، نزحوا من مدينة رفح جنوبًا، بعد بدء العملية العسكرية في مناطقها الشرقية. باغتتنا ياسمين الغصين بقولها: "النكبة ما عادت ذكرى. النكبة تكرر نفسها صوتًا وصورة في غزة".
تخبرنا ياسمين، ابنة "البرج"، وهي قرية قضاء مدينة الرملة، عن ظروف العيش في ظل التهجير القسري: "تمامًا كما كنا نسمع من جداتنا. جوع، وأمراض، وحر، وقوارض، وخوف، وموت من القهر والله".
وتكمل: "تركنا كل شيء خلفنا، ولا نعرف إذا كنا سنعود إلى بيوتنا أم لا. لا نعرف إذا عدنا هل سنجد لنا بيوتًا أصلًا؟".
"لا أعتقد أنهم في عام 1948 عاشوا هذه الظروف. هذه النكبة هي عبارة عن حالة إبادة. نحنُ نُقتل حتى في خيامنا حتى بعد أن نزَحنا".
وتزيد ساخرةً من هذا الواقع: "يا الله، كل شيءٍ يحكي تفاصيل النكبة. كلنا حملنا مفاتيح بيوتنا معنا، وأتمنى أن لا تصبح ذكرى كمفاتيح بيوت آبائنا وأجدادنا".
تضحك أختها الصغرى وتقاطعها: "مفاتيح عودة بطراز حديث". وتكمل: "لا أعتقد أنهم في عام 1948 عاشوا هذه الظروف. هذه النكبة هي عبارة عن حالة إبادة. نحنُ نُقتل حتى في خيامنا حتى بعد أن نزَحنا".
في نفس المخيم، قال أبو عبد الله أبو شاويش لـ"نوى": "نحن كشعب فلسطيني، صرنا نحتار أي ذكرى في مذكرات مآسينا علينا أن نُحيي؟ نكبة عام 1948م بتفاصيلها المرعبة، تشبه إلى حدٍ كبير تفاصيل نكبتنا هذه. ها نحن، بلا بيوت، ولا أراضي، ولا ماضي، ولا مستقبل، نجلس في خيمة بانتظار التدخلات الدولية، التي ستنتصر بطبيعة الحال لدولة الاحتلال".
أبو عبد الله (47 عامًا)، المهجر من قرية بيت دجن قضاء يافا، هو الآخر ذكر تفاصيل هجرة والده الذي توفي قبل عامين فقط. وعلّق: "نفس التفاصيل، وما نعيشه هنا أقسى، نحن مهجّرون من قرانا ومدننا الأصلية، ومهجّرون من بيوتنا التي بنيناها على أمل العودة القريبة، فهل هناك ما هو أكثر قهرًا من هذا؟".
يعيش أبو عبد الله في مدينة غزة، وقد بذل شقاء عمره كله ليبني بيتًا صغيرًا هناك يعيش فيه برفقة عائلته، وسكنه قبل عامين من الحرب فقط. "إنها مأساة. هل كُتب علينا أن نعيش مهجرين طوال حياتنا؟ لماذا نحن فقط نعيش نكبات متلاحقة؟".
ويكمل: "هذه ضريبة العيش في بلادٍ محتلة، ما فعلته "إسرائيل" عام 1948 لمحاولة سرقة الحياة الفلسطينية والتراث والجذور باء بالفشل، ولهذا لا حل أمامها إلا سفك المزيد من الدماء. تُرعبها فكرة صمودنا فوق أرضنا، وتكسرها "الحمدلله" أمام كل المصائب".
يعود الرجل فيقول بانفعال: "والله، ان شاء الله ما بنطلع منها، هذه أرضنا، وفي غزة أهلنا، وراجعين لغزة، ولبلادنا اللي هجرونا منها من 76 سنة".
يمرُّ بالقرب طفلٌ صغير، فيرفع علامة النصر. يضحكُ ويمضي، وينادي أبو عبد الله بنبرة السؤال: "راجعين يا عم أبو عبدالله؟" فيضحك الأخير ويردُّ بصوتٍ عالٍ: "راجعين يا بطل".