غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
وضعَت يدها على قلبِها، وأسندت رأسها إلى عمودٍ خشبيٍ في خيمتها ثم انخرطت بالبكاء. "هذا عبد الباري، وهذه لمى، شوفوا ما أحلاها كانت" قالتها وهي تقلّب صور هاتفها النقّال، وتتأمل ملامح طفليها الشهيدين.
سكتتَ قليلًا، وأكملت بحسرة: "لم أرَ أبنائي منذ ما قبل الحرب بشهرين. استشهدوا ودفنوهم دون أن أراهم".
سماح النزلة (34 عامًا)، وكُنيتها أم العبد، قضَت العمر تنتظر اليوم الذي يكبر فيه عبد الباري ليتمكن من العيش معها، وهي التي حُرمت من أبنائها الثلاثة منذ انفصالها عن والدهم قبل بضعة أعوام.
مالت سماح برأسها ناحية العمود الخشي الذي يسند الخيمة، وبدأت رواية الحكاية: "كنتُ أسكن منطقة المخابرات غربي مدينة غزة، ونزحتُ منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى بيت أهلي في منطقة تل الهوا جنوبي المدينة، وبقيت هناك شهرًا مع طفلتيّ بيسان ورزان، وهنّ من زوجي الثاني".
تحت وطأة الأحزمة النارية والقصف الإسرائيلي المتواصل، نزحت سماح مجددًا من بيت عائلتها إلى جنوبي القطاع، عبر حاجزٍ أقامه الاحتلال على شارع صلاح الدين شرقي مدينة غزة، وهناك "رأيت الموت بأم عيني" كما تصف المشهد!
وتضيف: "كانت رحلةً قاسية، قطعتُ الحاجز تحت وابلٍ من الصواريخ التي كانت تنهمر في كل مكان، ومررتُ بجثثٍ ملقاةٍ على يمين ويسار الطريق، بعضها كانت منتفخة. كان المشهد مرعبًا، الكل يسير خائفًا، بينما يواصل الجنود الصراخ لمنعنا من إحداث أية حركة (..) وحتى لو سقط منّا أي شيءٍ على الأرض، كان يُمنَعُ علينا الانحناء لالتقاطه، وكل الناس استجابت تحت الخوف من السلاح المصوّب نحوَنَا".
علاوةً على ذلك، شاهدَت سماح كيف نادى جنود الاحتلال أشخاصًا بعينهم، أخذوهم إلى خلف الثكنة العسكرية، وهؤلاء كما تقول "كان مصيرهم معروفًا. إما القتل أو الاعتقال والتعذيب، وهذا وحده كان من أقسى المشاهد".
على هذه الحواجز افترقت سماح مع عائلتها التي نزحت إلى رفح، بينما هي اتجهت إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وما زاد من قسوة الواقع، أنها افترقت عن أبنائها الثلاثة، سما (17 عامًا)، وعبد الباري (15 عامًا)، ولمى (13 عامًا)، الذين ظلّوا في جباليا شمالي قطاع غزة، مع والدهم وعائلته.
تُكمل: "كنت مشتاقة لأبنائي الذين لم أرهم منذ ما قبل الحرب، وكنت أعدُّ العُدّة لأحضرهم لزيارتي في بيت جدّهم، لكن بيت والدهم تعرّض للقصف أواخر العام الماضي، فاستشهد عبد الباري ولمى ووالدهما على الفور، بينما أصيبت سما، وتم نقلها إلى المستشفى، ثم نزحت إلى خانيونس جنوبًا".
"فرحت عندما بلغ عبد الباري سن الخامسة عشر، وانتظرتُ اليوم الذي يحمل فيه الهوية كي يأتي للحياة معي".
هنا لم تستطع سماح كتم دموعها التي انهالت كالشلال، وزادت: "فرحت عندما بلغ عبد الباري سن الخامسة عشر، وانتظرتُ اليوم الذي يحمل فيه الهوية كي يأتي للحياة معي، لكن الاحتلال دمّر كل شيءٍ عشتُ من أجله".
تكمل: "ابنتي سما جريحة. قصف الاحتلال بيتهم فاستشهد 50 شخصًا من أفراد العائلة، ووقتها نزحت إلى حي الأمل بخانيونس، وهناك أيضًا داهم الجنود المنزل الذي كانت فيه، وتعرضت مع جدتها للتنكيل"، مردفةً بالقول: "ابنتي تعاني حالةً نفسيةً سيئة بعد استشهاد شقيقها وأبيها. اضطُررْتُ لتركها هناك لأنها متعلّقة بشقيقها من أبيها، وهو جريحٌ عُمرُه أربع سنوات أيضًا".
كفكَفَت دموعها وأكملت: "في العام الماضي، وعدني عبد الباري بأنه في يوم عيد الفطر سوف يعايدني بمبلغ 50 شيكلًا، وحين زرتُ سما في العيد بعد استشهاد أخيها، فاجأتني بأن قدمت لي المبلغ نيابةً عن عبود. كنتُ أراه سندي في هذه الحياة، فكيف فعلوا بنا هذا؟".
مثل كل أمٍ منفصلة، عانت سماح لسنوات حرمانها من العيش برفقة أبنائها الذين كانت بالكاد تراهم كل شهر. عمِلَت لسنواتٍ في مجال التسويق الإلكتروني كي تتمكن من الحصول على مردودٍ ماليٍ بسيط يمكّنها من توفير احتياجاتها الأساسية. كان أملها في اليوم الذي سيكبر فيه عبد الباري دافعها لمواصلة الحياة، لكنها الآن فقدت الرغبة في كل شيء.
"الآن أنا أنتظر الموت في أية لحظة. ليس لديّ أي أمل في المستقبل ولا رغبة في التفكير به. كل ما عشته كان من أجل أبنائي"
بعيونٍ تائهةٍ فقدت بريقها تواصل: "الآن أنا أنتظر الموت في أية لحظة. ليس لديّ أي أمل في المستقبل ولا رغبة في التفكير به. كل ما عشته كان من أجل أبنائي، كي أضمُّهم إلى قلبي ذات يوم، والآن أنا لا أريد الحياة كلها".
وبالإضافة إلى حالة اليأس التي تعيشها سماح، تشعرُ بقلقٍ مُتزايد بسبب إصابة ابنتها سما، التي تعرضت لحروقٍ في الوجه وما زالت بحاجة لعملية تجميلية، متساءلة: "متى ستحصل على حقها بهذه العملية؟ وكيف ستواصل حياتها، وترعى شقيقها من والدها الذي لم يعد له أحد بعد استشهاد أمه أيضًا سواها؟".
تشير سماح إلى زوايا الخيمة الصغيرة التي تسكنها اليوم وتضحك بسخرية وسط سيلٍ من الدموع، ثم تقول: "في هذه الخيمة مرّ عليّ خريف وشتاءٌ كاملٌ وها هو الصيف. عانيتُ هنا كثيرًا، هنا لا مكان لنا. هذا المكان للحشرات والحر والقوارض".
وهذا كله، لا يعد شيئًا بالنسبة لما تعانيه سماح اليوم، من قهرٍ وغصة، وحرقةٍ على ولدين قتلهما صاروخٌ غادر، وتركها وحيدة، يأكل قلبها الشوق، و"عيدية" صغيرة من عبّود الشهيد.