غزة/شبكة نوى- فلسطينيات:
رغم مرور أكثر من شهرين على الإفراج عنها، لا تستطيع هديل الدحدوح، الأم لطفلين، تجاوز ما عاشته لمدة 54 يومًا بين معتقلات الاحتلال، وداخل أقبية تحقيقه.
حتى اليوم، لا تستطيع تجاوز صورتها التي انتشرت بين أكثر من 100 أسيرٍ، وقد نُزع عنها غطاء رأسها، وزُجت في شاحنةٍ، معصوبة العينين، سارت بها في طريقٍ مجهولٍ نحو المزيد من العذاب.
حتى اللحظة، لا تنسى كيف تركت طفلها الذي أنجبتهُ قبل الحرب بأيام -بعمليةٍ قيصرية- يبكي، لتنصاع إلى أوامر الجندي الذي اقتادها إلى حفرةٍ برفقة عدد كبيرٍ من الأسرى، وردّ على توسلاتها المتكررة بجلبه، بقوله وهو يضحك "لما تجيبولنا ولادنا بنجيبلك ابنك".
بدأت الحكاية في السادس من كانون أول/ ديسمبر الماضي، عندما اقتحم الجنود بيت هديل (24 عامًا)، الكائن في حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، بتفجير الحائط الذي يربط بينه وبين بيت الجيران.
"أخرجوا كل من كان في البيت، وطلبوا منا نحن النساء أن نبقى أمام الباب رافعات الأيدي، في حين اقتادوا الرجال، وعصبوا أعينهم"
تقول: "أخرجوا كل من كان في البيت، نساءً ورجالًا، وطلبوا منا نحن النساء أن نبقى أمام الباب رافعات الأيدي، في حين اقتادوا الرجال، وعصبوا أعينهم، وطلبوا منهم خلع ملابسهم. وقبل أن يذهبوا برفقتهم عاد جنديٌ وناداني باسمي (هديل الدحدوح، تعالي بسرعة)".
كاد قلبها يقفز من صدرها خوفًا -هكذا تصف المشهد- لكنها ذهبت إليه وهي تحمل ابنها، فطلب منها على الفور تركه مع إحداهن، وقال (أريد أن أجري لك تحليلًا طبيًا، وسأعيدك على الفور). حسبما فهِمت هديل بعد ذلك، فقد كانوا يشكّون بأن طفليها هم من الإسرائيليين الذين جُلبوا إلى قطاع غزة في السابع من أكتوبر، تاريخ إعلان الحرب على قطاع غزة.
تتابع: "بدأ الضابط يسألني عن تاريخ السابع من أكتوبر. أين كنتِ في السابعة صباحًا؟ أجبته كنتُ أجهّز طفلي (4 سنوات) للذهاب إلى الروضة، ثم عاد يسأل: من تعرفين ممن اجتازوا الحدود؟ أين توجد أنفاق؟ من تعرفين من نخبة الفصائل؟"، مردفةً بالقول: "كنتُ كلما أجبته بـ"لا أعرف" أتلقى ضربةً على رأسي، أو على بطني أو على صدري".
آخر ما توصّل إليه الجنود من إجاباتها البسيطة، التي كان معظمها طبيعيًا، وأغلبها (لا أعرف)، بأنها واحدة من أفراد "النخبة" التابعة للجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)! تخبرنا: "قبل أن يبدأوا بإغراقنا بالأسئلة، أعطونا إبرًا في الوريد، أنا وزوجي وشقيقه ووالده، بالإضافة إلى شابين لا أعرفهما".
"كنتُ كلما طلبت منه أن يرخي العصبة، شدّها على رأسي أكثر، لدرجة أنني صرت أبكي وأصرخ، وهو يتابع ضربي وركلي ببسطاره الثقيل"
كانت تلك إبر تخدير، بدأت بعدها انهمرت الأسئلة على مسامعهم. كل هذا والأعين معصوبة بشدة، "لدرجة أنني شعرت أنني سأفقد البصر فقد دخلت رموشي كلها في عيني" تزيد، متابعةً: "كنتُ كلما طلبت منه أن يرخي العصبة، شدّها على رأسي أكثر، لدرجة أنني صرت أبكي وأصرخ، وهو يتابع ضربي وركلي ببسطاره الثقيل".
عندما فُكت عصبة هديل، وجدت نفسها وحيدةً بين عشرات الأسرى الرجال العرايا إلا من القطعة السفلية من ملابسهم الداخلية. تقول: "كنتُ مربوطة اليدين، كان الجنود يجلبون الحمام ويلقونه فوق رأسي، ثم يبدأون بالعواء من خلفي، ويضربونني بأعقاب البنادق والبساطير، وينعتونني بأبشع الألفاظ، ويكررون على مسامعي تهمة إنتي نخبة. إنتي حماس!".
اقتيدت هديل إلى حفرةٍ كبيرة، في داخلها جرافة، وعلى حافتها يقف كل الأسرى الرجال تحيط بهم الدبابات، وتحلق فوقهم طائرات الكواد كابتر. "كانوا يبكون قهرًا" وفق شهادتها، وكلهم كانوا يطلبون من الجنود إطلاق النار عليهم بدلًا من دفنهم أحياء. كان الجنود يزيدون في إرهابهم بأن يصرخون بأعلى أصواتهم: "أنتم لا تستحقون الحياة، سندفنكم هنا أحياء، ونترككم للكلاب تنهش لحومكم وقلوبكم".
"بدأوا بعمي والد زوجي. أنزلوه في الحفرة، وبدأوا بإنزال الرمل فوق جسده. كان ينظر إليَّ ويبكي، ويناديني "تعالي طلعيني يا هديل"
تكمل: "بدأوا بعمي والد زوجي. أنزلوه في الحفرة، وبدأوا بإنزال الرمل فوق جسده. كان ينظر إليَّ ويبكي، ويناديني "تعالي طلعيني يا هديل"، وقفتُ مرارًا لأذهب إليه فكان الجنود يسحبونني ويضربون رأسي".
في جانبٍ آخر، أخذوا هديل إلى شاحنة، عصبوا عينيها مجددًا، وربطوا يديها نحو الخلف، أجلسوها وأدخلو فيها نحو 100 أسيرٍ رجل، ونزعوا حجابها، فبكت، وطلبت منهم إرجاعه على الأقل لتغطي به رأسها لكنهم رفضوا، ونعتوها بأقذر الشتائم، وضربوها من جديد. مضت بهم الشاحنة إلى ناحية ضواحي القدس، وهناك فُصلت هديل عن من كانوا معها في نفس الشاحنة.
تشرح: "لا أعرف ماذا حدث معهم، لكنني وجدتُ نفسي مع 19 أسيرة أخرى من غزة، نمشي على الحصمة، قالوا لنا إن اسم المعتقل عناتوت، وهناك تعرضنا للتفتيش العاري في عز البرد، وقد كنتُ وقتها أرتدي ذهبي، وأحمل في صدري بعض النقود، فأخذوا مني كل شيء، ولم يعيدوا لي شيئًا حتى بعدما أفرجوا عني".
9 أيامٍ كاملة، قضتها هديل مربوطة اليدين، لا تُفك أغلالها حتى داخل الحمام!
9 أيامٍ كاملة، قضتها هناك هديل مربوطة اليدين، لا تُفك أغلالها حتى داخل الحمام! كان البرد شديدًا جدًا، حينما نقلوها بعد ذلك إلى سجن بئر السبع. ووفق شهادتها، فقد قضوا عدة أيام هناك في ساحةٍ واسعة مزروعةٍ بالعشب، لكنها مبلولة بالمياه، "والدنيا ثلج. طلبوا منا خفض رؤوسنا طوال الوقت، فمن كانت تتعب وترفع رأسها، تواجهُ بالضرب والتنكيل والشتائم النابية" تعقب.
نُقلت هديل بعدها إلى سجن الدامون، وخضعت هناك لفحصٍ طبي، بعد آلامٍ شديدة أصابت منطقة عمليتها القيصرية، فلما عرف الطبيب أنها مُرضعة، أعطاها أقراص دواء لتجفيف الحليب في صدرها، دون أن تعرف أنها "لهذا الغرض".
أفرج عن هديل الدحدوح، في منتصف شهر آذار/ مارس الماضي، لكنها لا تستطيع تخطي ما حصل معها إلى اليوم. تحاول التقرب من طفلها الذي نسي ملامحها وصار لصيقًا بجدته، وتبكي كلما تذكرت ذلك اليوم، الذي تركته فيه وحده.