شبكة نوى، فلسطينيات: رفح :
جلست منال الخضري (٢٨ عامًا) برفقه زوجها على شاطىء بحر رفح، يستذكران حياتهما الجميلة السابقة التي انتهت مع اندلاع شرارة الحرب في السابع من أكتوبر الماضي.
أمعنت منال النظر في موجات البحر المتتابعة، واستحضرت ذكريات رحلاتها التي كانت تنظمها إلى شواطئه لتناول طعام الإفطار في شهر رمضان المبارك برفقه زوجها وأطفالها الثلاثة.
تقول لـ"نوى": "كنتُ أعد طعام الإفطار مكونًا من الوجبة الرئيسة التي عادةً ما تكون أرزًا مع لحوم أو دواجن، وأطباق الحساء والشوربات المختلفة، وبعض أنواع العصائر، بالإضافة إلى نوعٍ من أنواع الحلويات".
قبيل أذان المغرب، كانت منال تصطحب وليمتها الصغيرة مع أفراد أسرتها، وتقود سيارتها إلى حيث كورنيش البحر. تفترش الأرض استعدادا لتناول طعام الإفطار أمام مشهد غروب الشمس الجميل وسط أجواء هادئة ومواقف عائلية مرحة.
تتابع السيدة وقد قطبت حاجبيها: "الآن، كل ذلك أصبح من الذكريات، فسيارتنا دُمرت، وبيتنا كذلك، وكورنيش البحر لم يعد له وجود. لم يعُد هناك ولائم، بل بعض المعلبات الغنية بالمواد الحافظة، التي تأتينا من شاحنات المساعدات، وأصبحت طعام إفطارنا".
وتابعت: "لم يتبق من هذه الذكريات سوى غروب الشمس الذي فقد شاعريته وأصبح شاهدًا على مأساتنا، وعلى مذبحتنا التي لم تتوقف منذ ستة أشهر من الغارات المكثفة على القطاع".
وترى منال أن بحر غزة "كان وسيبقى متنفس الفلسطينيين الوحيد الذي يشكون إليه همومهم، فهو الوحيد القادر على استيعاب ما بدواخلهم من مشاعر سلبية، نتيجة ما تفعله بهم دولة الاحتلال منذ عقود".
ويعيش الفلسطينيون في قطاع غزة واقعًا صعبًا ومريرًا مع استمرار الحرب للشهر السادس على التوالي، واشتداد الحصار الخانق وتفاقم الأزمات الإنسانية بشكل كبير.
على مقربةٍ من منال وزوجها، كان محمد الريس ينثر رمال البحر أمامه شارد الذهن عما يدور حوله.
نزح محمد (٣٦ عامًا) برفقة عائلته من بيته في مدينة غزة مع بدايات الحرب، وتنقل أربع مرات إلى أماكن مختلفة قبل أن يستقر به الحال داخل خيمة في حي السلطان غربي مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
قطع الريس خلوته مع نفسه ليقول لـ"نوى": "المكوث في الخيمة سبب لنا القلق والاكتئاب وضيق الصدر، لذلك نهرب إلى شاطىء البحر لعلنا ننفصل قليلًا عن عالمنا الجديد الممتلئ بمشاهد الموت والدمار".
كان أطفال الريس يلهون ويمرحون أمامه ويجمعون أصداف البحر، ومن أمامهم وفي عمق البحر الزوارق الحربية الإسرائيلية توجه أفواه بنادقها باتجاه الشاطئ.
وقُتل العديد من الفلسطينيين بنيران هذه الزوارق خلال وجودهم على الشاطئ، ورغم هذه المخاطر ينتشر النازحون على طول الشاطىء كونه المتنفس الوحيد لهم هربًا من ضيق خيامهم الصغيرة، ومن الازدحام البشري الخانق خارجها.
تابع الريس بأنظاره حركة هذه الزوارق، وتساءل: "من يوقظنا من هذا الكابوس؟ متى سنعود إلى مدننا وشوارعنا التي ولدنا وعشنا فيها؟".
في منطقة أخرى من شاطىء بحر رفح، كان نحو ٢٠ شابًا يلعبون كرة الطائرة، غير آبهين بالحرب.
لكل واحد منهم حكاية خاصة، فمنهم من فقد زوجته وأطفاله، أو والديه وأشقائه، أو بيته وممتلكاته، أو دُمر حيه السكني بالكامل، ومعظمهم فقدوا أعمالهم وباتوا عاطلين عن العمل، اجتمعوا هنا على شاطئ البحر يتحدّون مآسيهم.
تحدث الشاب حمدي مخيمر (٣٩ عامًا) الذي كان أحد لاعبي كرة الطائرة على شاطىء البحر عن قصته القاسية في الحرب، التي بدت آثارها واضحة كشظايا متناثرة على وجهه، وقال لـ"نوى": "نزحتُ من مخيم المغازي إلى مدينة رفح، بعد أن قُتلت زوجتي، واثنين من أبنائي في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا مجاورا لمنزلي. أُصبتُ أنا بجروح استطعتُ التعافي منها ولم يتبق سوى طفلي الأصغر البالغ خمس سنوات، الذي بات في حضانة عمته".
وأضاف: "لولا هذا البحر لقُتلنا خنقًا بمآسينا وأحزاننا. إنه يمنحنا بعض الأمل ويدفعنا للبدء من جديد".
كان المسن عادل حافظ (٦٧ عامًا) يحاول أن يحظى ببعض المرح برفقه عشرات المواطنين، عبر متابعة سير مباراة كرة طائرة انعقدت على الشاطئ.
يقول إنه نزح من مخيم البريج وسط قطاع غزة، بعد أن فقد منزله الذي قضى حياته بأكملها يبنيه حجرًا على حجر، مشيرًا إلى أنه في كل يوم يقضي جل وقته هنا هربًا من مشاهد القتل والحرب، ومن ضجيج المعاناة اليومية التي تواجه النازحين من حوله.
وتمنى حافظ أن تنتهي الحرب قريبًا، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن تبدأ مرحلة الإعمار بدلًا من الخراب الممتد في غزة.
ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، تشن "إسرائيل" حربًا مدمرة على قطاع غزة، خلفت أكثر من ٣١ ألف شهيد، ونحو ٧٥ ألف إصابة، إلى جانب كارثة إنسانية غير مسبوقة، وفق بيانات فلسطينية وأممية.