شبكة نوى، فلسطينيات: رفح:
"أشعر أن حياتي توزعت بين حروبٍ ونكبات" تقول الحاجة فتحية أبو سعدة لـ"نوى" بنبرة قهر، وتكمل: "شارفت على الثمانين، ولطالما حلمتُ بالاستقرار، ثم ها أنا أنام على حصير في مركز إيواء للنازحين، والقلق يملؤني أكثر مما جربته في نكبة عام 1948م".
في أحد مراكز الإيواء بحي تل السلطان غربي مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، تجلس فتحية على فرشة بسيطة، تحيط بها بعض الأغطية الشتوية والمعلبات، وبعض ما تيسر من مساعدات توفرها وكالة الغوث "أونروا" للنازحين في المدارس، في غرفة صفية يعيش فيها 37 فردًا من خمس عائلات مختلفة وكذلك باقي الفصول.
تخبرنا: "ما يجري أعادني إلى ذكرياتٍ جربتها طفلة خلال نكبة عام 1948م في قرية سمسم التي هاجرتُ منها مع عائلتي حين كنت طفلة أبلغ 4 سنوات، لا أعي كثيرًا مما حدث، ولكن أتذكر على صغر سني كيف كانت عصابات الاحتلال تطلق على البيوت "قيازين نار" ( نوع من القنابل المتفجرة) فيموت بعضهم، ويهرب بعضهم، وهكذا حدثت الهجرة".
تحت القصف المستمر لمنازل المواطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م هاجر الناس عنوة ومنهم عائلة أبو سعدة، التي حملت معها مفتاح البيت ظنًا منها أن العودة قريبة بمجرد أن تنتهي الحرب، ولكن توقّفت آلة الحرب وعلى الأرض استمر القتل والتشريد، وحمل الناس حلم العودة.
تضيف: "قتلوا جدّي في عام النكبة حين أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة نحوه وهو في الأرض، فقد كان لدينا مكتاية (أي أرض زراعية) يزرعها فقوس وبندورة وخيار"، ثم تضحك وقد ضاقت عيناها عن آخرهما قبل أن تعقّب: "يومها طلب مني والدي ألا أخبر أحدًا في البيت بموت جدّي بسرعة، وحين عدت سألوني من الشهيد؟ فقلت لهم فورًا: جدّي".
أسندت السيدة يدها إلى وجهها الذي حملت تجاعيده ذكريات عُمرٍ مرّ وهي تقول: "هاجرنا في البداية إلى بيت عائلة في بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، ثم استأجرنا منزلًا في حي الزيتون شرقي المدينة، ثم عدنا مرة أخرى إلى منطقة الجرن في جباليا، وهناك أقامت الأونروا مخيم جباليا للاجئين من بيوت القرميد الأحمر الذي عشت وتزوجت فيه".
مرّت السنوات، والسيدة تحلم بالعودة حتى حلّت نكسة عام 1967م، حين كانت في الثلاثينيات من عمرها. قطاع غزة كان تحت الحكم المصري والضفة تحت الحكم الأردني، وهاجمت قوات الاحتلال الضفة والقطاع وسيطرت على ما تبقى من فلسطين.
تعقّب بينما تستدير صوب أحفادها: "كان الطيران الإسرائيلي يقف فوقنا مباشرةً قبل أن يطلق صواريخه. هربنا إلى منطقة المشتل غربي غزة حاليًا ولكن حينها كانت المنطقة أحراشًا. كان الطيران يقصف فيموت الناس، وهناك من يختبىء من الطائرة في ملجأ تحت الأرض له فتحة مغطّاة بلوح من الزينكو".
وتستذكر السيدة كيف جمع الاحتلال الناس في منطقة جورة أبو راشد (بركة أبو راشد حاليًا)، وكانوا على وشك إعدام الكثيرين لولا تراجعهم في آخر لحظة.
توالت النكبات والنكسات على حياة السيدة التي خرجت من التعليم في الصف الرابع الابتدائي بسبب مداهمة جيبات الاحتلال بشكل مستمر للمدارس، ومثلها خسرت التعليم الكثير من الفتيات، ولكن هذا دفعها لأن تناضل من أجل تعليم أبنائها الخمسة (ذكر وأربعة إناث).
تدخلت حفيدتها هبة فقالت: "حدثتنا جدتي عن كل ما مروا به طوال هذه السنوات، ولكن تقول لنا إن هذه الحرب هي الأقسى والأصعب بالنسبة لها".
وبالمقارنة البسيطة تقول السيدة إنها "شاهدت دبابات تقصف البيوت قديمًا ولكن لم تشاهد أبدًا بفظاعة القصف الحالي"، أما الطيران الحربي فقد كانت الطائرات قديمًا تقف فوق الهدف الذي تريد قصفه مباشرة، ويموت مجموعة، أما الآن فالطيران يستطيع قصف مربعات سكنية بأكملها ومن مسافات بعيدة، والضحايا بالمئات.
لا تعلم السيدة شيئًا عن مصير بيتها في بيت لاهيا شمالي القطاع. هناك أخبار تتحدث عن قصفه جزئيًا، وبكل الأحوال فكل ما يعنيها هو العودة إليه، أو إلى مكانه، لا فرق!
تعود الحاجة للحديث فتقول: "معلوم أصعب حرب، في كل مرة كنا نحلم بالعودة، ولكن مع هذا النزوح وترك بيتي في بلدة بيت لاهيا جعلني أشعر أن التهجير القادم هو خارج كل فلسطين. في كل مرة كنت أرى نفسي على بعد مسافة ليست بعيدة عن قرية سمسم هذه أول مرة أشعر بكل هذا الخوف. وكل هذا البُعد".