شبكة نوى، فلسطينيات: غزة:
على ميناء بحر غزة، يمسك الصيّاد رشاد الهسي (78 عامًا) بطبقةٍ من شِباك الصيد، وبواسطة صنارةٍ نحاسية يغزل سطورًا أخرى من العيون صغيرة الحجم؛ ليرمم ما أتلفه البحر فيها بسبب الاستخدام المتكرر، فيما يعرف محليًا بعملية "رَسْل الشبك".
و"رَسْل الشبك"، هو حياكة وصناعة وغزل شِباك الصيد التي عرفها الصيادون منذ القِدم، قبل أن تحلّ الشِباك المستوردة والمصنّعة آليًا محلّ اليدوية.
الهسي واحدٌ من الذين استمروا في ممارسة المهنة، ويحمل ذكريات معها رافقته منذ أعوام النكبة عام 1948م.
يضع الهسي طرف شبكة الصيد بين إصبعي قدمه اليمنى، ويمسك أطراف الشبكة الأخرى بين يديه. يغزل المزيد من العيون بصنارته النحاسية المقدّر طولها بنحو 15 سنتيمترًا، ويقول: "هي مهنة تراثية توارثتها أبًا عن جد. كنتُ أُمارسها في صباي فترة الخمسينات، والآن يمارسها أحفادي ويتقنونها أيضًا".
وللحديث عن ذكرياته مع مهنة "رسل الشبك"، شجون تقلّب الكثير من المواجع في قلب الرجل المولود عام 1944م بمدينة يافا، الذي ذاق مرارة اللجوء طفلًا مع عائلته التي كانت تعمل هناك بقطاع الصيد، وهاجرت تحت أزير الرصاص وانفجارات البراميل الحارقة، بعد أن اصطحبت معها مركبها الشراعي.
يخبرنا: "هاجرنا أولًا إلى قرية الجورة، وبقينا هناك ثلاثة أشهر، ثم انتقلنا إلى غزة، ولاحقنا الاحتلال حتى غزة، فهاجرنا إلى خانيونس، ولما انسحب الاحتلال حتى حدود بيت حانون، عاد الناس إلى غزة وعدنا معهم، وعشنا في خيام حتى بنيت لنا مخيمات من الطين عام 1951م. والدي رفض شراء أرض هنا، وكان يقول دومًا إننا سنعود إلى بيتنا في منطقة جبلية يافا".
حياة بائسة تلك التي نشأ عليها رشاد الذي سرعان ما التحق بقطاع الصيد البحري عندما أتم من عمره 15 عامًأ، وكان ذلك في عام 1959م، حيث تعلّم أيضًا مهنة رسل الشبك (غزل الشبك)".
ويزيد: "كانت مهنةً أساسية إلى جوار الصيد، فهي المهنة المسؤولة عن توفير الشباك للصيادين، وكان الغزل آنذاك بالصنارة".
الهسي مع صديقه الصياد فوزي النجار يعملان في رسل الشبك
يُقرّب الشبكة، ثم يشير إلى عين الشبكة التي وضع قلمًا جافًا فيها، وأكمل: "عشان نعمل نفس حجم العين، بلزمنا ملاطش"، أي أن مقاسات فتحات الشبكة الواحدة تتطلب لفّها حول قطعة حديدة تجعلها كلها بذات المقاس، تمامًا كما يحدث عند حياكة الصوف بالصنارة اليدوية "ومحيط القلم الجاف هو المقياس، الذي يلف حوله الخيط".
ثلاثة أنواع من الشباك يعمل الهسي على حياكتها، الأول بفتحات كبيرة تسمح فقط باصطياد الأسماك الكبيرة، والثاني بفتحات أصغر، والثالثة المعروفة باسم الشنشولة وهي للأسماك الأصغر حجمًا.
يستدرك :"لكن الشِباك التي تكون فتحاتها صغيرة جدًا ممنوعة، لأنها تصطاد سمكًا صغيرًا، أو ما يُعرف باسم سمك البذرة، وعادةً يتم وضع طبقات الشباك الثلاثة فوق بعضها عند الصيد".
ويشرح: "الشبك الموجود حاليًا مصنوع من خيوط الحرير وهو ياباني الصنع، لكن في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانوا يغزلون الشبك بخيوط من القطن. كانت بكرات الخيطان تصل من مصر، وتُغزل بواسطة المخياط أو المنقاذ أو الإبرة كما يُسمى، وهي أداة للصناعة اليدوية، والأساس الذي نشدّ عليه الشبك".
كانت مهنة رسل الشبك متعبة، فالشبكة التي يتراوح طولها بين 30 و70 مترًا، تحتاج إلى ثلاثة شهور متواصلة من العمل المستمر. كانت زوجات الصيادين تشارك في غزلها، تمامًا كما كانت تفعل زوجته الراحلة التي توفيت عام 2004م.
يقول: "هناك صيادون وزوجاتهم كانوا مهرة في رسل الشبك، وهناك من لا يعرفون، فكانوا يرْسِلون شباكهم عند من يمتهنون المهنة بمبلغ ليرة مصري، وهو مبلغ يعادل نحو 100 دينار حاليًا، ويعدُّ مبلغًا كبيرًا ومربحًا للعاملين وزوجاتهم".
يتابع: "كنا نصنع الشبك من خيط قطن مصري، وهناك أنواع كنا نخيطها من خيوط القطن الهندي، وهناك نوع آخر مسقوف، أسمك منه قليلًا، وكان لكل نوعٍ استخدامه، فلا يمكن القول إن هناك نوع أفضل من الآخر".
الأمر يحتاج إلى دِقة، فكل عين يجب أن تكون بمقاس المجاورة لها تمامًا. استخدم الصيادون قديمًا أداة اسمها "ماجة" لهذا الغرض، وهو ما استعاض عنه الهسي بمحيط دائرة القلم الجاف.
مع استيلاء الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة بعد نكسة عام 1967م، تعرّف الصيادون في قطاع غزة تدريجيًا على الشباك المصنوعة آليًا، وعنها يقول: "صياد اصطحب حسكة من ناحية الاحتلال الإسرائيلي وعليها الشبك المستورد".
لم يفضل الصيادون حينها الاستعانة بالشبك المستورد لأنه كان مرتفع الثمن نسبيًا مقارنة بالمصنوع يدويًا، وكان الصيادون يفضلونه (اليدوي)، ويعدّونه أكثر متانة وتحملًا، لكن بمرور الوقت أصبح سعر الشباك المستوردة أرخص، ناهيكم عن وفاة عدد من الصيادين وزوجاتهم الذين كانوا يمتهنون هذه الحرفة، أو اعتزال عددٍ آخر منهم المهنة لتأثيرها على النظر مع التقدم بالعمر، وهنا بدأت الشباك المصنّعة بغزو سوق الصيد تدريجيًا مع بداية حقبة التسعينيات.
يكمل الهسي :"خلال العهد المصري كان قطاع الصيد ممتازًا، وموسم السردين هم موسم الزواج والبناء لمن لديه مشروع شخصي، ولكن مع التأثير المستمر للسد العالي الذي حرم البحر كميات هائلة من المياه العذبة التي يتغذى عليها سمك السردين ليتكاثر بالآلاف، تراجعت الثروة السمكية".
يصل سعر 10 كيلو من الغزل حاليًا إلى نحو 500 شيكل، ولكن لا يعدّ الثمن مرتفعًا، لكن الصيادين يفضلون حاليًا الشباك المستوردة من اليابان، "فتكلفتها أعلى نسبيًا، وتصل إلى نحو 1000 شيكل، ولكنها تعمّر طويلًا، وهو ما يُعدّ أفضل بالنسبة للصيادين".
في التسعينيات كان الصيادون يشترون "لفّات" كبيرة من الغزل، ويتم تفصيلها محليًا، ولكن بعد عام 2010م منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الشبك، فعادت للمهنة رونقها تدريجيًا، ليصبح ترميم الشبك وإصلاحة "حاجة" ملحة.
تعرّض الهسي في 4/1/2017 لضربة صادمة من الاحتلال الإسرائيلي، الذي قصف مركبه في عرض بحر غزة، فاستشهد أحد أقاربه، ناهيكم عن أنه فقد مصدر رزقه، وبقي مستندًا للعمل المتقطّع والتدريجي.
يختم الرجل المسن حديثه بالقول: "المهنة ورثها أبنائي الخمسة وأحفادي الذين مرُّوا من هنا قبل قليل. كان وضع المهنة قديمًا ممتاز والآن نعاني، لكن تبقى أمنيتي الأخيرة في حياتي أن أعود ولو لشهر واحد أقضيه في يافا وأموت هناك".