شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 03 مايو 2024م16:03 بتوقيت القدس

من غزة إلى جنين..

في عُرف "النزوح" لا "هُدى".. الكل يركُض!

06 يوليو 2023 - 11:33

شبكة نوى، فلسطينيات: في عُرف النزوح، لا يوجد "هُدى"! الكل يركض. نساءٌ وأطفالٌ وشيوخٌ تدركهم خطواتهم إلى طُرقٍ لا يعرفونها. حثون عن الأمن تحت نيران القصف والقناصة، ويصرخون! ينادون بعضهم دون أن ينظروا إلى الخلف ليتأكدوا أنهم لم يتركوا وراءهم شهيدًا في الطريق.. الجميع بخير، وهنا لا يهم أي شيءٍ آخر.

وكأن الأحداث في جنين تعيد نفسها هنا، على أرض غزة. ذات التفاصيل الموجعة، ونظرات الخوف والحيرة، وقهر الرجال الذين تركوا خلفهم شقاء أعمارهم، ونداءات الاستغاثة، وطوابير الفرار إلى حيث لا يعلم أحد. نزوحٌ تحت أزيز الموت جرّبه أهل غزة مرارًا، ولذا يعرفون جيدًا كيف كان العدوان على مخيم جنين. سيناريو الرعب يبدأ بعد منتصف الليل ويمتد إلى حيث يقرر الاحتلال أن عمليته انتهت. وما بين هذه وتلك، يدك الخوف قلوب القابعين في خوفهم لا يعلمون إلى أين يسير بهم القدر.

تقول مرح ماجد: "هذه المشاهد المؤلمة، أعادت إلى رأسي شريط ذكرياتٍ مرعبٍ عشته بحذافيره، وربما بشكلٍ أقسى، حينما أجبرنا على الخروج من منازلنا بسبب القذائف التي كانت تطلقها مدفعيات الاحتلال بشكلٍ عشوائي خلال عدوان عام 2014م في حي الشجاعية. الشظايا تتطاير من فوق رؤوسنا، وأزيز الرصاص يسمع عن كثب. دوي طائرات الاستطلاع، ودخول الطيران الحربي فجأة، والناس! الناس الذين كانوا يركضون ويصرخون. الأمهات اللواتي حملن صغارهن، والأطفال الذين يبحثون عن آبائهم. هذا ما أعادتني إليه مجزرة المخيم".

في تلك الأيام، كان أصعب من الفرار نفسه، اتخاذ القرار به. "هنا بيتنا الذي تعبنا فيه. هنا ذكريات طفولتنا، وقلوبنا التي كانت تطير فرحًا في كل عيد. جدتي المسكينة رفضت آنذاك الخروج خشية أن يتكرر سيناريو النكبة التي أصابت فلسطين عام 1948م، لكن أولادها أرغموها بعدما قارب المنزل على الانهيار فوق رؤوس كل من فيه، وهنا تبدأ حكايةٌ أخرى" تضيف مرح.

تكمل: "كانت المشاهد قاسيةً للغاية. شعرتُ لوهلةٍ أنني تلك الشابة التي تسير دون وجهة محددة. في هذه اللحظات لا مجال للتفكير سوى بالنجاة أو حتى الموت! يا ليت الموت يدركنا جميعًا دون استثناء. نار القصف أبرد من نيران الفقد الذي سيصيبنا في حال بقي أحدنا! وهذه كانت معظم دعواتي".

غدير عبد الغفور أيضًا، ابنة بلدة القرار شرقي خان يونس، جنوب قطاع غزة، لم تنم لحظة طوال مدة الاجتياح للمخيم. "هنا نشعر بالمستضعفين في بلادنا أكثر من أي شخصٍ في العالم، فقد عشنا معاني القهر والظلم والفقد والخوف كلها مع كل قرار عدوانٍ على غزة. الذكريات تلاحقني، وتقارب الصورة يطاردني. كم أتمنى أن يكون مجرد كابوس نصحو منه ولا نجد احتلال".

وتكمل: "في أحد منازل المخيم، كانت طفلة تشرح لمراسل صحفي، كيف استيقظت على صوت القصف الذي استهدف المنزل! كان الأمر مريعًا، ووجدتني تلقائيًا أقترب من ابنتي الغافية بجانبي، وأتحسس رأسها وجسدها، وأنا أعود بذاكرتي إلى عدوان عام 2014م".

وتردف: "لا يمكنني أن أنسى كم مرة أجبرنا على ترك منازلنا هربًا بأطفالنا وشيوخنا من قتلٍ غير مبرر، أمام صمتٍ دوليٍ مطبق، وهمجيةٍ إسرائيلية، وقصفٍ عشوائي للمنازل والبيوت الآمنة مع كل اجتياح".

عندما اجتيحت القرارة، فوجئت غدير كما غيرها من سكان المنطقة بدبابات الاحتلال تصل إلى عمق أراضيهم خلال ثوانٍ معدودة! "كانت قريبةً جدًا من بيتنا، وأتذكر حينها كيف ركضنا بكل قوة. تركنا كل شيٍ خلفنا، الدبابات كانت تسحق الشجر والحجر بجنازيرها، وتقنص كل هدفٍ متحرك بقذائفها لتتناثر في طريقنا الأشلاء في مشهدٍ مرعبٍ لا يمكن أن أنساه" تزيد.

أحد المشاهد التي لا تنساها عبد الغفور، بعد انتهاء العدوان آنذاك، وعودة عائلتها إلى المنزل، أنها حينما صعدت إلى سطح البيت، فوجئت ببقايا وجه وفكين لأحد الشهداء. كان مشهدًا مرعبًا وموجعًا جدًا".

تستحضر عبد الغفور كل المشاهد العصيبة التي عاشيتها في أكثر من عدوان، وتقول: "في عدوان 2014م حاولنا الصمود داخل بيوتنا ولكن طائرات الاحتلال أبت إلا أن تهجرنا قسريًا بكمية الصواريخ التي أمطرتنا بها، أحيانًا كنا نعود في أوقات الهدن، لكن نفاجأ بعدها بعدوانٍ أقوى يدمر منازل أكثر، فنغدو مشردين لا مكان نعود إليه".

مشهدٌ صعبٌ آخر ترويه غدير، يوم قرروا العودة مرةً فأتاهم إنذار سريع بالإخلاء، هم وأهل المنطقة جميعًا. تضيف: "لم يمهلنا الإنذار إلا ثوانٍ معدودة، ثم بدأ القصف ونحن على أبواب منازلنا. السماء كانت تشبه ثورة بركان، أما الصواريخ فانطلقت من كل حدبٍ وصوب (..) بعدما توقف الصوت، رفع الأحياء رؤوسهم، وبدأت كل أمٍ تبحث أن أطفالها بينما عم الصراخ المكان. استشهد من استشهد وبقي من بقي يومها، ومن بقي حمل تلك الذكرى في قلبه طوال الوقت".

حينما استسلم الناس في المنطقة لفكرة النزوح حتى انتهاء الاجتياح البري (والحديث لغدير) لم يأخذوا معهم أي شيء. حتى أوراقهم الرسمية، وأموالهم، وكل ما خبأوه للزمن. كنا نظن أن هذه هي ذروة المعاناة، وأننا ما أن نصل إلى بر الأمان سنكون بخير، لكننا لم نكن نعلم أن القادم أسوأ، فطعم التهجير مؤلم جدًا، وطعم العودة بعد انتهاء العدوان، ورؤية حجم الدمار الذي حل بشقاء عمرك وتعب أيامك أشد مرارةً وأكثر إيلامًا".

 

كاريكاتـــــير