غزة:
"سألت نفسي كثيرًا لماذا يحدث لي كل هذا، تمنيت الموت مرارًا، أنهكني التفكير بأبنائي حتى خارت قواي، أضع رأسي على الوسادة وأنا أسأل نفسي كيف مرّ عليّ الزمن وبلغت هذا السن".
ربما تعتقد أن من باحت بهذه الكلمات سيدة مسنّة فعل الزمان بصحتها الأفاعيل، لكن الحقيقة إنها شابة لم تتجاوز 27 من العمر، لكن الآلام التي عايشتها منذ فقدت زوجها شهيدًا عام 2014 جعلها تشعر أنها كبرت كثيرًا.
تروي ندى حكايتها: "تزوجت مبكرًا، وأنجبت طفلين، كنت رغم ذلك مستقرة مع زوجي رغم بعض الخلافات العائلية كوننا في بيت عائلة، لكن الوضع ساء حين استشهد وتركني وحيدة أربي أطفالًا وأنا بالكاد بلغت 18 عامًا، لا مصدر دخل ولا شهادة والكل يتدخل".
ووفق إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2020، فإن نسبة الأرامل في فلسطين تبلغ 6% ، وترتفع في قطاع غزة عنها في الضفة الغربية بسبب العدوانات الإسرائيلية المتلاحقة على قطاع غزة، وتعاني الأرامل واقعًا اجتماعيًا صعبًا يزيد من تفاقمه شحّ المساعدات المقدّمة لهن.
عودة إلى ندى التي ما إن نفضت عن نفسها بصعوبة ثوب الحداد، حتى بدأت وهي بالكاد تودّع مرحلة المراهقة في الركض خلف المؤسسات التي تقدم مساعدات للأرامل، في رقبتها طفلان مطلوب منها إلى جانب تربيتهم وتوفير التزاماتهم، تعويض فقدانهم لوالدهم، ومن أجل هذه المهام التي أثقلتها وهي في هذا السن الصغير عليها أن تتجاوز حزنها على رحيل زوجها.
تتابع: "أعتمد الكامل على ما يصلني من مساعدات توفّرها المؤسسات الخيرية إلى جانب مخصص 700 شيكل نتسلمها كل عدة شهور من وزارة التنمية الاجتماعية ومعها قسيمة شرائية شهرية".
لكن المؤلم للشابة إن الكثير من المؤسسات حين توفّر القسام الشرائية سواء التسوّق أو الملابس تصرف من مدينة غزة، فتضطر إلى الانتقال من مدينة رفح حيث تعيش من اجل كوبونة.
تعقّب: "أشعر أن هذا مهين لنا، قيمة القسيمة تصل أحيانًا 170 شيكلًا، وهي قيمة مهمة بالنسبة لي، فأضطر لدفع 20 شيكلًا للوصول إلى غزة وخمسة شواقل أخرى كيف يدخل السائق إلى مكان بيتي حيث أعيش في منطقة ريفية".
تكمل :"ازحام شديد في المكان سواء كان التسوق لمواد غذائية أو كسوة عيد وهي نحصل عليها مرة واحدة، استهلاك للوقت منذ الصباح حتى ما بعد الظهر، وكثيرًا ما يمنعني الازدحام من الحصول على شيء مناسب لأولادي، ماذا لو فكرّوا أن يوزعوا المساعدات بكرامة، بطبيعة الحال لا يمكن أن أتجاهل الذهاب تحت أي ظرف، ولكن يجب أن يراعوا الكثير من الاشياء وأولها على الأقل أن نصرف قسائمنا من ذات مدينتنا".
وتشعر ندى بالحزن بسبب ما أسمته "سمعة على الأرامل" أنهن يحصلن على الكثير من الأموال وهذا غير صحيح، ربما كانوا كذلك في مرحلة ما، ولكن الآن نحن "نطفح المر" للحصول على كل مساعدة وقسيمة، تعقّب: "كثيرًا ما أنظر إلى نفسي وأقول يا رب أموت تعبت من كل هدا، الحياة جدًا مرهقة".
المؤلم أكثر أن هناك الكثير ممن يوزعوا المساعدات في منطقتها ويعلمون أنها أرملة وتري أيتامًا فلماذا لا يوفروا عليها خجل السؤال ويقدموا لها المساعدة، كما أنها شاركت كثيرًا في وقفات مطلبية للمطالبة برواتب لأسر الشهداء ولكن توقفت بعد أن يئست.
تشببها تمامًا في المعاناة صديقتها بسمة، فالتجربة جعلتهما أكثر قربًا، وكلما علمت إحداهن بتوزيع مساعدات في منطقة تسارع بإخبار صديقتها، تخففان عن بعضهما عناء واقعهن الذي لم يتقبّلنه بعد.
تقول بسمة: "عمري 32 عامًا، لم يتذكرني أحد سوى رسالة من شركة جوال"، ثم تطلق ضحكة خفيفة وتعود للمواصلة: "لا أعرف كيف مر عمري منذ وفاة زوجي شهيدًا عام 2014".
تربي الشابة بسمة ثلاثة أطفال أصغرهم وُلد بعد استشهاد والده بثلاثة شهور، تشتكي مرّ إهمال الجهات الرسمية لاحتياجاتهن، وهي التي تزوجت صغيرة ولم تحظَ بفرصة للتعليم ولا الحصول على عمل مناسب.
توضح: "مثل صديقتي ندى أحصل على مخصص من الشؤون الاجتماعية، 700 شيكل كل عدة شهور لا تكفي لأي احتياجات، صحيح أن القسيمة الشهرية توفر بعض الأشياء لكن هؤلاء صغار ويحتاجون الكثير وأنا أيضًا لدي احتياجات".
تكمل بضحكة خفيفة :"لدينا جروب على الواتساب للشابات الأرامل كلما علمت إحدانا بوجود مكان لتوزيع المساعدات تخبرنا"، وهنا تدخلت ندى بالقول :"طول نهاري ماسكة الجوال وعلى الجروب على أمل يكون في خبر عن رزقة أو أي شيء".
هناك أمور لم تعد ترفًا في الحياة، مثل وجود هاتف ذكي وخط هاتف وخط انترنت وملابس للأبناء الذين يكبرون وتضطر لأن تستفيد من ملابس الأكبر ولكن بوجود فتاة بينهم فهي لن تستفيد من ملابس أخوها الذي يكبرها.
تكمل: "أحاول ترتيب أموري بأقل القليل، أعيش يوم بيوم، ولكن كل هذا استنزاف لصحتي وأعصابي، إن ضمنت توفير نفقات اليوم لأبنائي وغدًا من الذي يضمن لي ذلك لباقي الشهر مثلًا".
الأقسى بالنسبة لها إن شهداء 2014 لم يعتمدوا بعد على قائمة رواتب أسر الشهداء، ورغم أنها أمضت وقتًا وهي تشارك في الاعتصامات من أجل نيل هذا الحق ولكن ملّت في النهاية وانكفأت على نفسها.
ومثل غيرها من الأرامل اللواتي يعشن خارج مدينة غزة، فالشابة التي تحصل بشكل متفرق على قسائم شرائية أو قسيمة كسوة العيد السنوية تجد مشقة في الوصول إلى غزة لاستلام هذا الحق.
توضح: "هو في النهاية حق أيتام ولكنه يكلفني جهد يوم كامل، أخرج من الساعة التاسعة وأحتاج أكثر من ساعة في الطريق من رفح إلى غزة وهناك أعاني الازدحام الشديد كما غيري لأن الجميع يصرف القسيمة من ذات المكان ويكلفنا دفع مبلغ 25 شيكلًا أحيانًا أضطر لاستدانتها".
تقترح الشابتان اتخاذ إجراءات تسهّل على النساء الفاقدات الحصول على حقهن مثل أن يتم الصرف من ذات المحافظة سواء بالاتفاق مع سوبرماركت قريب أو محلات ملابس من ذات المحافظة بغرض التخفيف عنهن وأن يتم النظر في طبيعة وشكل المساعدات التي تقدم لهن أو منحهن فرص عمل ينفقن منها على أبنائهن.