رام الله/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بعد نحو عامٍ ونصف على مقتل صابرين التايه من بلدة كفر نعمة غربي رام الله، لم يصدر أي حكم ضد زوجها الذي أقدم على قتلها والتمثيل بجثتها.
عاشت صابرين في بيت زوجها لمدة 12 عامًا حياةً "مُرّةً" تحت وقع "الضرب" و"الشتيمة"، على عين عائلته، وأبناء البلدة الذين كانوا يعرفون جيدًا بأنه "مدمن".
في المرة الأخيرة، اعتُقل زوجها على خلفية "الاتجار بالمخدرات"، فتركت بيته واتخذت قرارها: "لن أعود إلى مرتع البؤس ذاك"، ولما عاد لم يجدها. ساوَمَها: إماالرجوع، أو قتل ابنها، فاختارت "حياته". حدث ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2021م.
حسب عمها جمعة التايه، "بمجرد أن وصلت البيت، قتلها زوجها بشكلٍ بشع، لقد شوّه وجهها وقطّعها أمام أطفالها. مزّق شفتيها، ونكّلَ بها بـ"البلطة". معالم وجهها مخفية، لقد استفرد بها وقتلها بطريقةٍ بشعة أمام أعين أطفالها الذين يعيشون حتى اللحظة حالةً نفسيةً صعبة".
بعد الحادثة بيومين فقط، عُقدَت "عطوة عشائرية" بين العائلتَيْن وبحضور أبناء البلدة، ووقَعت العائلتان "صك صلح"، جاء فيه نصًا: "تقديم أهل القاتل مبلغ 70 ألف دينار لذوي الضحيّة، وإجلاء أهل القاتل (إخوته وأبناؤهم) لمدة شهر عن البلدة".
هذا الصلح أسقط الحق الخاص لعائلة صابرين، وهو الأمر الذي يُسقِطُ تلقائيًا أكثر من نصف المدة التي يمكن أن يحكم القاضي بها ضدَّ الجاني، وبهذا لن تتجاوز محكوميته (15 عامًا) كعقوبة لـ"القتل العمد"، بل يمكن أن تقل أكثر في حال أخذت المحكمة بالأسباب المخفِّفَة كـ "أنه لم يكن في وعيه"، وهو الأمر الذي غالبًا ما يحدث في مثل هذا النوع من المحاكمات.
في هذا التحقيق، حاولنا تتبع حالات قتل نساء خلال الأعوام الأربعة الفائتة (2019م – 2022م)، للإجابة على السؤال: "هل يتم تحقيق العدالة للنساء في حالات القتل؟". الإجابة كانت صادمة، لكنها "متوقعة"، عندما اجتمعت عوامل عديدة "على رأسها منظومة المجتمع"، فجعلت تحقيق العدالة للنساء الضحايا -حتى في حالات "القتل المتعمد مكتمل الأركان"- غائبًا.. إليكم التفاصيل:
"تراجع ظاهري"
خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، ووفق مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، بلغت حالات قتل النساء 113 حالة، موزعة في سجلات المركز كالتالي: (21 حالة قتل في عام 2019م، و37 حالة عام 2020م، و28 حالة في 2021م، و27 حالة في عام 2022م).
مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي: "21 حالة قتل في عام 2019م، و37 حالة عام 2020م، و28 حالة في 2021م، و27 حالة في عام 2022م".
المدهش، أن هذه الأرقام تضاربت بشكلٍ واضح مع الإحصاءات الرسمية التي حصلت عليها معدة التحقيق من جهاز الشرطة الفلسطينية الذي تحدث عن 33 حالة قتل خلال الأعوام الأربعة فقط!
وفق سجلات الشرطة، فالحالات موزعة بواقع (7 حالات لعام 2019م، و14 حالة لعام 2020م، و9 لعام 2021م، و3 لعام 2022م).
الفجوة الكبيرة بين الأرقام الرسمية، وما وثّقه المركز، كفيلة بالإجابة عن السؤال "محور التحقيق"، ففي حين تشير "الأرقام الرسمية" إلى تراجعٍ كبير في حالات قتل النساء بالمقارنة مع سنواتٍ سابقة، يُعلل الناطق باسم الشرطة الفلسطينية العقيد لؤي ارزيقات ذلك بزيادة وعي المجتمع الفلسطيني، واللجوء إلى النيابة ومنظومة العدالة ودوائر حماية الأسرة؛ لحل الخلافات العائلية والأسرية، و"عدم إقحام النساء لأنفسهن في إشكاليات كبيرة" على حد تعبيره.
المؤسسات النسوية التي ترصد الحالات، وتتابعها، تؤكد بدورها أن التراجع الذي يتحدث عنه الإعلام الرسمي ليس إلا "تراجعًا ظاهريًا"، في حين يرى الباحث في مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي نبيل دويكات، المختص بمتابعة ملف قتل النساء، أن هناك عدة عوامل تسببت بحدوث هذه الفجوة في رصد حالات قتل النساء، "منها اختلاف نطاق وحدود الرصد والتوثيق (بين الضفة الغربية فقط كما في رصد الشرطة، والضفة الغربية وقطاع غزة معًا كما في رصد المؤسسات النسوية)، وكذلك اختلاف المفاهيم المستخدمة في توصيف الجريمة كالقتل، أو الانتحار، أو الوفاة الطبيعية، أو الوفاة في ظروف غامضة، وغيرها".
ويقول: "حدود ومدى التحقيقات مهم. لا يمكننا التشكيك بتحقيقات الشرطة والنيابة، وأيضًا لا يمكننا التسليم تمامًا بأن هذه التحقيقات تَجري بموضوعية، وبعيدًا عن تأثير الثقافة والعادات السائدة".
"استنحار"
في عام 2011م، أُلغيت المادة رقم (340) من قانون العقوبات الخاصة بالأعذار القانونية المُحِلة المخفّفة لعقوبة القتل (في أحوال التلبّس بالزنا والفراش غير المشروع)، ولكن "زادت بعد ذلك نسبة الجرائم المسجّلة كحالات انتحار بين الإناث بشكل ملفت، وهو ما يجعلنا نشكّك في السبب الحقيقي للموت، لا سيما وأننا عايشنا عددًا كبيرًا من حالات "الاستنحار" (أي الإجبار على الانتحار)" حسب دويكات.
في 2011م، أُلغيت المادة (340) من قانون العقوبات الخاصة بالأعذار المخفّفة لعقوبة القتل (في أحوال التلبّس بالزنا)، لكن "زادت الجرائم المسجّلة كانتحار"
إحدى الحالات -يقول- سيدة من قطاع غزة، وقع شجارٌ كبيرٌ بينها وبين زوجها، فإذا به يضربها في منزل والدته، ورغم تدخل أمه لمنعه، إلا أنه لم يستَجب.
يضيف: "عاد بها إلى بيته، وهناك استمرَّ بضربها حتى أفلتت من يده، وهدّدته بشرب مبيدٍ حشري في حال استمرَّ بضربها، فما كان منه إلا أن رد: "إذا أردتِ فاشربيه"، لتشربه بالفعل، وتُنقل بعدها إلى المستشفى في حالة اختناقٍ وغيبوبة، وتفارق الحياة بعد عدة ساعات".
ورغم أن كل الشهود ومنهم والدة الجاني، شهدوا بالضرب الشديد الذي تعرضت له السيدة على يد زوجها، والذي أكّده تقرير الطب الشرعي والنيابة العامة، إلا أن النيابة قررت أن سبب الوفاة هو "انتحار"!
عائلات الضحايا
عودةٌ إلى قصة صابرين التايه، التي يعيق وصول قضيتها للعدالة التي حُرمت منها حيّةً وميّتةً "الصلح العشائري"، الذي عقدته عائلتها مع عائلة القاتل، الذي أسقط بشكل تلقائي "العقوبة المشددة" عنه.
يقول عمّها جمعة، الذي يتابع قضيتها باسم العائلة: "الأسرة تطالب بالقصاص، ولكن بسبب عدم وجود هذه العقوبة، ولحقن الدماء، قرَّرَت اللجوء للحل العشائري، الذي يعد في هذه الحالات عملًا وطنيًا وقيَميًّا وإنسانيًا" على حد وصفه.
ضمن حديثه، أبدى التايه عدم ثقةٍ بالقانون، وشكه في تحقيق العدالة لصابرين، متسائلًا: "أين كان القانون عندما تعرضت للضرب المبرح على يد زوجها، وتقدمت بشكوى ضده فحُبِسَ لشهرٍ فقط، ثم خرج لتنفيذ جريمته؟".
فتنة خليفة: يجري خلال العطوات حل القضية لمصلحة الطرفين، وليس لتحقيق العدالة للضحية.
الحالات التي رصدها التحقيق، أظهرت في بعضها أن القاتل قد يكون من خارج الأسرة، وهنا تتم "العطوات العشائرية" التي تكون سببًا في تخفيف الحكم على القاتل أيضًا. تقول منسقة خدمات الإرشاد في جمعية المرأة العاملة الفلسطينية للتنمية، فتنة خليفة: "يجري خلال العطوات حل القضية لمصلحة الطرفين، وليس لتحقيق العدالة للضحية، فالأهل يسعون بأي شكلٍ إلى إغلاق الملف بسبب الضغط الاجتماعي الذي يُمارس عليهم".
وقد اقتضى التنويه، إلى أن عددًا من العائلات التي توجهت إليها معدة التحقيق، رفضت التعاون في الحديث عن حوادث القتل لديها، بسبب ما قالت إنه "سعيٌ لإغلاق الملف"، فكانت التفاصيل التي حصلنا عليها بالكاد تغطي المعلومات المطلوبة، بل إن بعضهم أخبرنا -من باب الصراحة- أنهم لا يتابعون القضية في المحاكم، "ويكتفون بجهود النيابة العامة"!
في المقابل، رفضت عائلاتٌ قليلة الصلح العشائري، والتنازل عن الحق الخاص، بغية إيقاع العقوبة القصوى على القاتل.
عائلة الشابة رزان مقبل (روزان ناصر)، التي قُتلت على يد خطيبها خنقًا في يوليو/تموز لعام 2020م، وعُثر عليها في سيارته بالمنطقة الصناعية من "بيتونيا" غربي رام الله، ثم لاذ بالفرار. لم ترفض الصلح العشائري، لكنها اشترطت توقيع صك الصُلح "بعد إتمام محاكمته والنطق بالحكم ضده".
تقول خالتها وردة: "العائلة تعرّضت لضغوط مجتمعية ورسمية كبيرة؛ لقبول العطوة في البداية، إلا أنها لم تقبل بالتنازل عن حق ابنتها التي قُتلت غدرًا".
وردة مقبل: "نتابع الجلسات منذ عامين ونصف، لكن حتى الآن لم يصدر حكم بحق القاتل، ونخشى أن يكون التأخير سببًا لتخفيف العقوبة"
ورغم وضوح الحالة، واعتراف القاتل بجريمته بشكلٍ واضحٍ وصريح، إلا أن جلسات المحكمة يتم تأجيلها في كل مرة لسماع الشهود! تعقّب الخالة: "نتابع الجلسات منذ عامين ونصف، لكن حتى الآن لم يصدر حكم بحقه، ونخشى أن يكون التأخير سببًا لتخفيف العقوبة".
وفي حالة رزان، فإن القاتل سيواجه حكمًا بالسجن 15 عامًا بتهمة القتل "القصد" (القتل بدون إصرار مسبق)، ولكن في حال إثبات أنه كان في "ثورة غضب" كما يحاول المحامي إقناع المحكمة، فستُخفّف العقوبة، "وهو الأمر الذي تعدُّه العائلة جريمةً ثانية بحق ابنتها" تضيف.
ثغرات قضائية
"وإطالة أمد المحاكمة، يواجه كل حالات قتل النساء تقريبًا، وهو ما يُنظَر إليه على أنه مدخل إضافي لعدم الوصول إلى العدالة للنساء المقتولات"، حسب منسقة منتدى مناهضة العنف ضد المرأة، صباح سلامة، التي قالت: "هناك حالات واضحة، وباعتراف القاتل، إلا أننا نشهد مماطلةً غير مبررة في النطق بالحكم".
توافقها الرأي رئيسة "نيابة حماية الأسرة من العنف" دارين صالحية، التي تتابع جميع قضايا الجرائم المرتكبة بحق النساء والأطفال داخل نطاق الأسرة، وتضيف: "إن طول أمد التقاضي ينعكس سلبًا على تحقيق الردع الخاص والعام، وهو ما يستغلُّهُ محامي الدفاع جيدًا، خاصةً بعد إخلاء سبيل المتهم، ومحاكمته خارج السجن".
صالحية: "ليس من المعقول أن يصدر حكمٌ بقضية قتلٍ حدثت قبل 7 سنوات"
وتزيد: "ليس من المعقول أن يصدر حكمٌ بقضية قتلٍ حدثت قبل 7 سنوات، فالعبرة من العقوبة تحقيق الردع، وحيث أن العقوبة بدأت قبل سنوات، يُكتفَى بمدة توثيق التهمة والمتهم".
ما تحدثت عنه صالحية، يوافق حالة السيدة (س.د) من مناطق شمال الضفة الغربية، التي قُتلت على يد زوجها.
اعترَفَ الزوج بقتلها متذرعًا بـ "شرف العائلة"، فصدَرَ بحقه حكمٌ مخفّفٌ لمدة عامين ونصف، قبل أن تعمل "نيابة حماية الأسرة من العنف" على الاستئناف، وتحصل على حُكمٍ بحقه لعشر سنوات.
هذا الحكم الذي تم تداول أخباره على أنه "سابقة وإنجاز" حقوقي، استأنف القاتل عليه، فتم تخفيضه لسبع سنوات!
وبحسب القانون، وبعد اطلاع معدة التحقيق على محضر اعتراف القاتل، فإن عقوبة القتل المشدّدة تنطبق على الحالة، "فالقاتل اعترف أنه نفذ جريمته بعد مراقبته لزوجته، ولم يكن في "ثورة غضب"، بل خطّط لعملية القتل على مدار أيام، حتى تمكّنَ من استدراجها، ثم قَتَلَهَا أمام أطفالها".
مقتل (س.د) جاء بعد إلغاء العذر المخفّف عام 2011م، فكيف استمر استخدام الأحكام المخففة إذن؟
ما يثير التساؤل هنا، أن مقتل (س.د) جاء بعد إلغاء العذر المخفّف عام 2011م، فكيف استمر استخدام الأحكام المخففة إذن؟
توضّح صالحية حيثيات هذا الحكم فتقول: "قضايا القتل العمد عقوبتها الإعدام، لكن في الحالة الفلسطينية استُبدِلت بالأشغال الشاقة المؤبدة، وبحسب القوانين المعمول بها، لا يوجد نصٌ صريحٌ يحدد مدّة الحكم، فصارت تتراوح بين (20 و25 عامًا).
وتعطي المادة (99) من قانون العقوبات، القاضي حق التحرك بين الحكم الأعلى والأدنى، "والتعديل الذي أجري على هذه المادة لم يرتقِ لسلب القاضي هذه السلطة التقديرية".
تؤكد صالحية من متابعتها لقضايا قتل النساء، أن "القُضاة ما زالوا يستعملون روح النصوص، التي أُلغِيَ بعضُها، وعُدِّلَ بعضُها الآخر، بما يساعد المعتدي، ولا يشكّل رادعًا".
القضاء و"القوانين العرفية"
من جهته، يقول عضو مجلس نقابة المحامين المختص بالقضايا الجنائية، المحامي أمجد الشلة: "إن الخلل الرئيس فيما يتعلق بتحقيق العدالة في قضايا قتل النساء في فلسطين، هو التدخل العشائري، وإسقاط الحق الخاص، الذي يُسقِطُ بشكلٍ تلقائي نصف العقوبة أو ثلثها حسب الحالة".
ويتابع: "في كل دول العالم، هناك اعتبارٌ لإسقاط الحق الشخصي، ولكن في حالات قتل النساء، وتحديدًا عند إسقاط الأهل حقهم، فإن تراخِي القاضي يدفع المحكمة للبحث عن أي عذر؛ لتخفيف الحكم".
ويعطي الشلة مثالًا من واقع متابعاته، "حيث تقدم زوج بطلب استئنافٍ على حُكمِهِ 25 عامًا لقتله زوجته، وهذا الحكم يُعدُّ من الحالات النادرة في جرائم قتل النساء، ولكنه صدر بحقه كونه هرب خلال فترة محاكمته، ناهيكم عن عدم إسقاط عائلة الزوجة لحقها الشخصي، بمعنى أن العقوبة ليست للقتل فقط".
ما يعقّد الأمر أكثر، أن معظم حالات قتل النساء تتم داخل نطاق الأسرة، بحسب دراسة أجراها مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي عام 2021م.
ولكن ما يعقّد الأمر أكثر، أن معظم حالات قتل النساء تتم داخل نطاق الأسرة -بحسب دراسة أجراها مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي عام 2021م- حول حالات قتل النساء، التي وثَّقها خلال عامَي 2019م و2020م.
ووفق الدراسة، فإن 26 حالة توفَّرت حولها معلومات كافية، وكان القاتل في جميعها من أفراد العائلة، وفي معظمها "أسقطت العائلات حقها بصفتها وكيلة القاتل والمقتولة في آن معًا".
كل ذلك يضاف إليه قوانين شرعية وعُرفية تؤثر على حُكم القضاة، مثل ما يسمى "صلة الدم"، أو "حبّاس الدم"، الذي يسمح في كثيرٍ من حالات قتل الزوجة مثلًا، بالإفراج عن الزوج القاتل بحجة الحاجة لمن يرعى الأطفال، أو الإفراج عن شقيقٍ قتل شقيقته، بحجة أنه المُعيل الوحيد لوالديه.
وهنا دعونا نطرح سؤالًا: "هل يؤتمن قاتل زوجته أو أخته، على رعاية أطفاله، أو والديه حتى؟".
قانون حماية الأسرة
يتّفق كل من التقتهم معدة التحقيق داخل المؤسسات النسوية والرسمية، على أن الحل للخروج من معضلات إسقاط العائلات لحقها الشخصي وتراخي القضاء، هو إقرار قانون حماية الأسرة، الذي ينص على متابعة هذه الحالات، بمعزلٍ عن إسقاط العائلة لحقها.
وتشدد المنسقة صباح سلامة، على أهمية إقرار قانون "حماية الأسرة من العنف"، الذي ينصُّ على متابعة حالات القتل، بغض النظر إذا ما أُسقِطَ الحق الخاص أم لا، أو إذا ما كانت العائلة ترغب في متابعتها أم لا، إلى جانب تغيير قانون العقوبات المعمول به في فلسطين، "فالتعديلات لم تكن كافية، بل أصبحت -على أهميتها- بمثابة ترقيعٍ لثوبٍ مهترئ".
وأشارت سلامة إلى سعي المؤسسات النسوية والحقوقية، لمتابعة قضايا قتل النساء قضائيًا، "ولكن القانون الحالي لا يعطي هذا الحق إلا للنيابة العامة أو للعائلة فقط".
صالحية: الأصل وضع قانون عقوبات متطور وشامل
وتوافق صالحية على أن التعديلات التي جرت على قانون العقوبات "مبتورة وغير متوائمة"، "لكن إقرار قانون حماية الأسرة، سيخلق فجوةً في حماية المرأة في الحيّزَين الخاص والعام"، مردفةً بالقول: "والأصل وضع قانون عقوبات متطور وشامل".
هذا الطرح يدعمه المحامي أمجد الشلة، "فقانون العقوبات المستخدم في فلسطين، هو ذاته قانون العقوبات الأردني رقم (16) لعام 1960م، الذي كان يتلاءم مع طبيعة المجتمع العشائري قبل 63 عامًا".
وليس إصلاح وتعديل القانون فقط، فقد جاء في التقرير النهائي لمشروعٍ أنجزه مركز المرأة للإرشاد عام 2019م، وتضمّن تدريب مجموعةٍ من المحامين وتأهيلهم في موضوع الرقابة على إجراءات المحاكم، أنه "على الرغم من أن التعديلات على قانون العقوبات، أحرزت تقدمًا في الاستجابة للتحديات واسعة النطاق التي تعاني منها النساء الضحايا، إلا أن دولة فلسطين، ونظام العدالة فيه، لم يُطَوَّر، ولا يُنفذ الدعم المناسب لوصول الضحايا للعدالة".
تحرُّكٌ بطيء
ووسط كل هذه العوائق أمام العدالة للنساء الضحايا، يُطرح السؤال عن الدور الرسمي لوزارة المرأة، التي يُفترض أن تضع السياسات التي تعزز هذه العدالة، وتضغط باتجاه تغيير القوانين.
يقرُّ مدير عام التخطيط والسياسات في وزارة المرأة أمين عاصي، بوجود خللٍ في تحقيق العدالة للنساء المقتولات، "لكن الوزارة تسعى للتقليل من العوائق التي تَحول دون ذلك" يستدرك.
وفق عاصي، فإن الوزارة اتخذت مؤخرًا خطوات مهمة على هذا الصعيد، على رأسها "إعداد استراتيجية المساعدة القانونية 2022م"، التي تُمكّنُ النساء من الحصول على العدالة، حتى لو كان هناك إهمال من قبل العائلة". وأضاف: "تدفع الوزارة بشكلٍ دائم باتجاه إقرار قانون حماية الأسرة، وطرح مشروع جديد للمصادقة عليه من قبل مجلس الوزراء، وهو (استراتيجية مناهضة العنف ضد المرأة)".
ولكن، ماذا عن المرصد الوطني لرصد حالات النساء المعنفات، الذي تم الإعلان عنه في العام 2019م؟ يجيب عاصي: "نعمل ببطء شديد؛ لتفعيل المرصد، من أجل تأمين السرية التامة للحالات".
تبعًا لعاصي، يعمل المرصد على تعزيز حالات التحويل للبيوت الآمنة، كإجراءٍ احترازيٍ لمنع حالات القتل، "وهذا يتم وفقًا لتحليل بيانات يساعد على تصنيف الحالات، فالتي تتقدم بشكوى متكررة، تُحدَّدُ على أنها شديدة الخطورة، ويجب متابعتها".
حتى الجرائم التي تحولت لقضايا رأي عام، كما هو الحال في قضية مقتل الشابة إسراء غريّب، لم تحقق العدالة المطلوبة لروح الضحية.
كل تلك الإجراءات تبدو غير كافية، فحتى الجرائم التي تحولت لقضايا رأي عام، كما هو الحال في قضية مقتل الشابة إسراء غريّب، لم تحقق العدالة المطلوبة لروح الضحية.
عائلة إسراء أعلنت وفاتها في الثاني والعشرين من آب/ أغسطس للعام 2019م، "إثر نوبةٍ قلبية، بعد سقوطها من شرفة منزلها"، قبل أن تتحدث مصادر مقربة من العائلة عن تعرُّضها للضرب المبرح من قبل أفراد من عائلتها.
وبعد التحقيق، أعلن النائب الفلسطيني العام أكرم الخطيب، أن الادّعاء بسقوطها من شرفة المنزل "مختلقٌ لإخفاء ظروف الجريمة"، مبينًا أن التحقيقات أشارت إلى دخول إسراء المستشفى نتيجة عنف أُسري، وأن سبب وفاتها الحقيقي هو ما تعرضت له من ضرب وتعذيب، ومن خلال البيانات والأدلة، تم اتهام ثلاثةٍ من أفراد عائلتها بقتلها".
ورغم هذا الوضوح، والمعطيات التي لا لبس عليها ولا تعتيم، إلا أن المحاكمة التي لا تزال مستمرة بعد 3 أعوام ونصف من الجريمة، قررت إخلاء سبيل المتهمين الثلاثة بكفالة، ومواصلة محاكمتهم خارج السجن.
توضح صالحية حيثيات قضية إسراء، فتقول: "النيابة العامة، وحسب القانون، تجري التكييف الأولي، وكل الأدلة آنذاك، بالإضافة إلى تقرير الطب الشرعي، أكدت تعرض إسراء لضربٍ أفضى إلى الموت، لكن لا توجد بيّنة على التصميم على القتل".
هذا جعل قاضي محكمة التوقيف (والحديث لصالحية) يقضي بالإفراج عن المتهمين، مستندًا إلى عدم وجود بينه القتل العمد. رغم أنه، وبحسب القانون، "فإن الاستناد لوجود بينة من عدمه، ليس من اختصاص قاضي التوقيف".
يقول المحامي أمجد الشلة (أحد متابعي القضية): "إن سبب الإفراج بكفالة جاء لأن البيّنات التي تم جمعها لا ترتقي لضبط المتهمين بقضايا القتل، فلم يكن أمام المحكمة سوى الإفراج عنهم".
وهنا يعود بنا الشلة إلى خطورة "الصلح العشائري" على تحقيق العدالة للنساء، فحسب القانون يتم إخلاء سبيل المتهم خلال المحاكمة، ما لم يؤثر ذلك على السلم العام في المجتمع، وحين يُقبل الصلح العشائري يسقط هذا المانع، مما يسهل إخلاء سبيل المتهمين، وهذا "ما لا نراه في حالات قتل الرجال" كما يؤكد.
نساءٌ لم يهُن دمُهُنَّ، فرفضت عائلاتهُنَّ الصلح العشائري إلا بعد النطق بالحكم على القاتل، وعائلاتٌ أخرى تعرّق "مخاتيرها" خجلًا "كرامةً لذقن فلان" من الأعيان والجاهات، فوقّعت "صك الصلح" قبل القصاص، وهوّنت عقوبة الجاني، وظلمت الضحية حيةً ميّتة.
113 امرأة قُتلت خلال أربعة أعوام! يبدو الرقم مرعبًا لمن يتابع سجلّات الشرطة، لكنه "حقيقيٌ تمامًا" لو أضفنا إلى الأرقام الرسمية المعممة -وهي أقل بكثير- نسوة سُجلنَ كـ"منتحرات" في وثائق الحكومة. 113 امرأة قُتِلت.. "وما المشكلة؟! طالما أن الحل في فنجان قهوة؟!".
إن توقيع "صك الصلح العشائري" قبل محاكمة القاتل، جريمةٌ ثانيةٌ بحق السيدة المقتولة، ونصرةٌ للقاتل "عيانًا" "بيانًا"، في مجتمعٍ بات فيه "العدل" -إلا ما ندَر- سلعةً قابلةً لـ "الفِصال".