شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاحد 06 اكتوبر 2024م16:14 بتوقيت القدس

خلال جلسات دعم نفسي نظمتها "فلسطينيات"..

صحفيون يصرخون على الشاطئ.. "إنهم يعرفون ماذا يفعلون"

02 فبراير 2023 - 12:31

شبكة نوى، فلسطينيات: أربعون صحفيًا صرخوا بعُلو الصوت! لم ينظر أحد منهم للآخر بعين الريبة، أو الاستهجان، فكلهم يعرفون لماذا يقفون هنا، وماذا يفعلون. "لم يكن هناك مجال لأي خجل، كنا نحاول إزاحة تراكمات تجارب مُرة كتمنا فيها مشاعرنا أمام مشاهد الموت والدمار. صمدنا حتى فاض الثِقَل، ولم يعد للصمود هنا متسع" يقول المصور الصحفي محمد دهمان لـ"نوى"، بينما كان يشير ناحية قلبه.

انضم دهمان لبرنامج الدعم النفسي الخاص بالصحفيين، الذي تنظمه مؤسسة "فلسطينيات" بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، ليعطي نفسه وقتًا كي يرجع خطوةً للوراء -كما يعبر- "فوقت الأحداث لا مجال لأن تشعر بإنسانيتك. أنت أشبه بآلة، تتجمّد مشاعرك أمام كل الأهوال، وقد تصل إلى حد التبلّد أمام ضرورة إيصال الرسالة، أو هكذا كنتُ أظن" يستدرك.

ويستهدف برنامج الدعم النفسي، الصحفيين العاملين في مختلف المؤسسات الصحفية، الرسمية والأهلية والخاصة، في محاولةٍ لفك النزاع الداخلي الذي يعيشه الصحفي الفلسطيني بسبب الأحداث المتسارعة، والمتفاقمة، والمتتالية في قطاع غزة. "فقد أصبحنا نتعامل مع الأحداث الأكثر إيلامًا على أنها عادية، رغم أنها غير عادية بالمطلق، فالطبيعي أن أتألم، أن أحزن، لا أن أكمل يومي بعدها وكأن شيئًا لم يحدث. الأمر أشبه بأننا نصنع بطانة عازلة، تُفقدنا المشاعر تجاه أي شيء مهما كان قاسيًا" يضيف دهمان.

ويعود بعقله لسنوات ما قبل عمله في التصوير الصحفي، فيكمل: "كنتُ أتألم وأقضي كثير من الوقت في التفكير إذا ما رأيت قطة صغيرة في الشارع، لكنني اليوم لم أعد أكترث، وهذا الأمر مخيف بالنسبة لي".

تسارع الأحداث وصعوبتها لم تكن تترك المجال لمراجعة الذات (والحديث له)، وقد انتبهت لهذه الحقيقة أثناء عدوان 2021م. "في ذلك اليوم، اضطررت للبقاء في المنزل، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي. في كل أوقات العدوان كنت أبقى في العمل، فوق أسطح البنايات، في المستشفى، وقرب ثلاجات الموتى، في ذلك اليوم فقط، أدركتُ كيف تمر ليالي العدوان على أقرب الناس لي! كيف يخافون، ويتألمون. لقد أدركت وقتها فقط قسوة الحرب" يزيد.

خلال ثلاثة أيامٍ أمضاها محمد في جلسات التفريغ النفسي، التي اتخذت هذا العام طابعًا مغايرًا، بفصل الصحافيين عن الواقع تمامًا لمدة ثلاثة أيام كاملة، بعيدًا عن المواعيد، والالتزامات، والتغطيات، يبدو دهمان سعيدًا للغاية، بعدما استطاع أن يرى نفسه من الداخل، وأن يلمس أوجاعه الغائرة، وأن يضع حدًا لها "فأي تراكم جديد سيكون أثره صعب على قلبي، وصحتي النفسية" يقول.

غير بعيد كان بشار طالب، وآخرون، يمسكون بقطعٍ مختلفة من الصلصال، يحاول كل منهم تشكيل ما يمكن أن يخطر بباله من مجسّمات، بينما تتناثر الابتسامات على الشفاه، "الأمر ليس مخجلًا بالمرة. هنا نغني، ونصرخ، ونرسم، ونلعب. هذه مساحتنا وحدنا" يخبر "نوى".

يعرف بنفسه ويقول: "أنا بشار، عمري 33 عامًا، أعمل مصورًا صحفيًا، وقد عايشت ثلاثة عدواناتٍ إسرائيلية، وما بينها من فترات تصعيدٍ صعبة، بالإضافة إلى مسيرات العودة. كنتُ أتعاملُ مع كل المشاهد التي يمكن تخيلها، من دماء، وأشلاء، وبيوت سقطت على رؤوس ساكنيها، وأحياء يتنفسون تحت الأنقاض لساعات، لكنني وصلت لدرجة أنني لم أعد أحتمل أي مشاهد عنف، واتجنبها في حياتي العادية"، مردفًأ باستهجان: "حتى أنني لم أعد أحتمل مشاهدة أفلام الرعب التي كنت أعشقها".

لا يعرف بشار ما الذي غيّرهُ إلى هذا الحد! لكنه متأكد من أنه، وطوال فترة تغطيته للأحداث المختلفة، كان يضطر لحبس مشاعره، "حتى أصبحتُ أظن أنها تبلدت. لكن ما اكتشفته اليوم أنها موجودة، وجياشة، لكنها مكبوتة، بعد أن تحولنا إلى آلات نقل وإرسال فقط".

لا يمكن لبشار أن ينسى ذات يوم أنه مشى على أشلاء ودماء شهداء خلال عدوان عام 2014م في منطقة الشجاعية، "كنتُ أوثّق الأحداث، ولا أضيع فرصة لالتقاط صورة مميزة، لكنني وبمجرد العودة إلى المكتب، والبدء بتفريغ الكاميرا، كنتُ أُصدم لهول المشاهد! وأسترجع الأحداث مصحوبة بالأصوات التي كنت أسمعها ولا أعبأ بها" يقول.

أحد المواقف التي لا ينساها بشار، يوم أن كان يصور وداع أم لأبنائها الثلاثة الذين استشهدوا في ذات اللحظة، "كانت هذه الأم بحاجة لمن يطبطب عليها، وأنا كنت بحاجة لالتقاط الصورة، وقد كان، لكنني بعد انتهاء الحدث انتابني لوم شديد، لماذا لم أترك الكاميرا وأهرع للطبطبة عليها؟"، موضحًا أنه خلال الجلسات عرف كيف يمكن أن يواجه مثل هذه المواقف، وأن يتصرف إزاء كل المشاعر السلبية التي يمكن أن تخنق قلبه.

يضيف بشيء من الارتياح: "أتوقع أن تتغير سلوكياتي بشكل كامل، حتى ردود فعلي تجاه المواقف المختلفة سأكون قادر على ضبطها، وأجمل ما في هذه الجلسات أن الطبيب كان بالفعل قادرًا على لمس أوجاعنا، ودفعنا للحديث عنها".

بدوره، يقول الصحفي عمرو طبش: "خلال الأيام الثلاثة لجلسات التفريغ النفسي، شعرت لأول مرة بأنني أفرغ كمًا هائلًا من الهموم والأوجاع، بأساليب ربما كنا نظنها تافهة أو بسيطة، لكنها بالفعل طردت الكثير من الطاقة السلبية التي كانت حبيسة بداخلي. لقد تعلمت أننا نمتلك الكثير من الأدوات التي يمكنها أن تحدث تغييرًا حقيقيًا في حياتنا".

عمرو استطاع للمرة الأولى أن يتحدث بشكل منفرد عن بعض المشاكل التي يشعر بها، "تمكن الطبيب من تحديد المشكلة، ووضعني على بداية طريق العلاج، وأعطاني مجموعة خطوات تؤهلني لمساعدة نفسي" يضيف، مؤكدًا أن انتهاء الجلسات لا يعني انتهاء الفكرة، "ففي الحقيقة، لقد فرغنا الكثير من الغضب والخوف والتوتر، وعلينا أن نكمل الطريق، لنضمن علاج أنفسنا أولًا بأول.

وفي تعقيب لها خلال زيارتها لغزة، تقول مسؤولة الاتصال والتواصل في "يونسكو" هلا طنوس: "هذه ليست تجربتنا الأولى في مجال الدعم النفسي للصحفيين، لكن في هذا العام، ارتأينا تغيير نوعية الجلسات، وعليه فضلنا أن  نستعين بطبيب نفسي من الضفة الغربية، باعتبار أن كل من في غزة، وحتى الأطباء النفسيين أنفسهم واقعون تحت ضغط الأوضاع الصعبة، ويتعرضون لذات الضغوط النفسية".

وتضيف: "كنا بحاجة لطبيب بنفسية متجددة، ولديه القدرة على سحب كل الضغوط من الصحفيين، لا أن يكون مرسلًا ومستقبلًا للضغوط في آن معًا"، ملفتةً إلى أن الطبيب تمكن بالفعل من لمس وتحديد المشاكل النفسية التي يعاني منها الصحفيون المشاركون، أكثر من الأخصائيين والمنشطين -الذي كان يجري اعتمادهم في الأعوام السابقة- حيث تمكن من وضع الصحفي على بداية طريق العلاج، وهو الأمر الذي نسعى له حقيقةً".

وأشارت إلى أن البرنامج يستهدف كافة الصحفيين في قطاع غزة باختلاف أعمارهم وفئاتهم، لا سيما وأن كل الشعب هو بحاجة لمثل هذا النوع من التدخل، قائلةً: "المشروع يهدف لتغيير نمط الحياة، وتوفير وسائل الدعم النفسي للصحفيين، وتعريفهم على آليات ووسائل يمكنهم من خلالها مواجهة الضغط النفسي"، موضحةً أن الهدف الأساسي من ذلك، يكمن في إرشادهم إلى طرق مواجهة الضغوط، وتوظيف المحيط لمساعدتهم في الخروج من عزلة الواقع، "وأن يكون هذا البرنامج بداية لبناء قدرات أكبر لديهم، وتقديم الدعم اللازم الهم" تختم.

يعقب د. فتحي  فليفل والذي يقدم العلاج النفسي باستخدام الفنون :" تم اعتماد منهجيه الدعم النفسي من خلال الفنون حيث تم التركيز على استخدام الرسم الموجه والتشكيل بالصلصال وايقاع الجسد كأدوات لتخفيف التوتر وإدارة الاجهاد إضافة لتمارين الاسترخاء والتنفس

ولفت أنه لمس خلال الجلسات بعض الاعراض الدالة على الإجهاد التراكمي لكنها لم تصل لحد الإصابة بأعراض مرضية، ويرى د. فتحي أن الصحفيين بحاحة مستمرة لتلقي الدعم النفسي بشكل منظم لمساعدتهم على التفريغ الدائم وتوفير مساحة آمنة لهم لضمان تفادي التعرض لانتكاسات قد تعيقهم من تقديم خدماتهم

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير