شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 19 مارس 2024م04:43 بتوقيت القدس

"الصحة" ٢٠٢٢م.. بروتوكولات "مبتورة" ومنظومة "تحتضر"

10 يناير 2023 - 15:05

شبكة نوى، فلسطينيات: غزة :
 بجسده الهزيل، خرج الأكاديمي محمود الكرد (45 عامًا)، عبر صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، قبل أكثر من شهر، يستغيث لإنقاذ حياته.

كان عاجزًا عن الكلام، مسجًى على سرير إحدى المستشفيات، يطلب بلسانٍ ثقيلٍ مساعدة الرئيس الفلسطيني في الحصول على حقه في العلاج، بعدما تحطّم أمله في الخروج للعلاج من سرطان الرئة الذي أصيب به عام 2020م، بسبب رفض الاحتلال المستمر إعطاءه التصريح  للعلاج في مستشفى المطلع بالقدس.

وفي حين، تفقد مستشفيات قطاع غزة، إمكانية العلاج الإشعاعي لمرضى السرطان عمومًا، رُفض سفر الكرد أربع مراتٍ متتالية من قبل الاحتلال، دون مبرر، لكنه تمكّن أخيرًا، وبعد جهود المؤسسات الحقوقية من الوصول إلى المستشفى المقدسي، حتى أُعلن عن وفاته متأثرًا بالمرض، في السادس عشر من ديسمبر / كانون الأول الماضي.

تمثل حالة الكرد نموذجًا  مصغّرًا لأزمة كبيرة يعيشها القطاع الصحي في غزة، منذ نحو 16 عامًا هي عمر الحصار، حينما تعاملت "إسرائيل" مع المرضى كوسيلة تعذيبٍ لغزة، فمنعت معظمهم من الحصول على تصاريح لدخول القدس، والضفة الغربية للعلاج هناك، في حين، تلاعبت بمشاعر الكثيرين منهم، عندما كانت توافق على إعطائهم تصاريح "في الوقت الضائع"، وأحيانًا، بعد وفاتهم!

الميزان :36% منطلبات العلاج بالخارج قوبلت إما بالرفض أو التأخير أو إنعدام الرد

ووفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فقط تقدم أكثر من 15.000 مريض، بطلبات للحصول على تصريحٍ إسرائيليٍ للخروج من غزة بغرض تلقي العلاج منذ عام 2021م، لكن ما نسبته 36% من هذه الطلبات، قوبلت إما بالرفض أو التأخير أو إنعدام الرد.

يخبر زياد شنن -في إفادةٍ قدمها للمركز الحقوقي- أنه تلقّى ردًا مفاده أنه طلبه قيد النظر، ويقول: "خسرتُ بالكامل قدرتي على الرؤية بالعين اليسرى الآن، ويتملكني الخوف من خسران رؤيتي بالكامل لأن ذلك سيعني أيضًا خسراني لمصدر رزقي، فأنا أعمل كسائق توك توك".

في العام 2021م وحده، فقد أربعة مرضى حياتهم بسبب رفض السلطات الإسرائيلية منحهم تصاريح العبور، وكان من بينهم طفلين أحدهما عمر فاخر الكرد (15 عامًا)، الذي عانى من التهاب السحايا، وتوفي على إثره بعد رفض السلطات الإسرائيلية منحه تصريح العبور.

غزة:350 جهازًا معطلًا داخل مستشفيات قطاع غزة ونفاذ 44 صنفًا من الأدوية الأساسية لمرضى الأورام والدم

وفيما أعلنت وزارة الصحة عن وجود 350 جهازًا معطلًا داخل مستشفيات قطاع غزة (أصبحت خارج الخدمة)، بالإضافة إلى نفاذ 44 صنفًا من الأدوية الأساسية لمرضى الأورام والدم، فإن نقص الإمكانيات كان له تداعياته خلال العدوان الإسرائيلي 2022م، وأزمة كورونا، "إذ ولولا ضغط المنظمات الدولية، ومؤسسات حقوق الإنسان، لما دخلت الأجهزة والأدوية المطلوبة إلى قطاع غزة" يقول مدير دائرة الأشعة والتصوير الفني في وزارة الصحة إبراهيم عباس لـ"نوى".

وتطال آثار الإغلاق والحصار الإسرائيلي، مناحٍ مختلفة من نظام الرعاية الصحية في قطاع غزة، حيث تسمح السلطات الإسرائيلية بدخول الأدوية بكميات أقل من المطلوب، وبشكل مزاجي، في حين تحظر توريد المعدات والمكوّنات الطبية، وتمنع الطواقم الطبية مع السفر للإلتحاق بفرص التدريب في الخارج.

وتقوم جهاتٌ عدة على تقديم الخدمات الصحية في الأراضي الفلسطينية وهي وزارة الصحة، والخدمات الطبية العسكرية، والجمعيات الأهلية من مؤسسات المجتمع المدني، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بالإضافة إلى القطاع الخاص، وبالرغم من ذلك، هناك فجوة كبيرة بين احتياجات القطاع الصحي في فلسطين، والمتوفر منها، أو الممكن توفيره لقطاع غزة، أو للضفة الغربية على حدٍ سواء.

الضفة في مرمى نيران الاحتلال

في اليوم قبل الأخير من  نهاية العام 2022م، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي بشكل متعمد رصاصها الحي تجاه المسعف  في الإغاثة الطبية حمزة أبو حجر، خلال محاولته إسعاف أحد المصابين أثناء اقتحام الاحتلال لمدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة.

تسبّبَ رصاص الاحتلال بإصابة خطيرة، نتج عنها تهتك بعضٍ من أنسجة أبو حجر الداخلية، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تستهدف فيها الطواقم الصحية الميدانية، إذ يعكف الاحتلال على إطلاق الرصاص الحي، وقنابل الغازات السامة، وعرقلة سيارات الإسعاف في الضفة الغربية خاصة أثناء نقلها للمصابين.

وكان استشهاد الطبيب عبد الله أبو التين في أكتوبر الماضي  في محيط مستشفى جنين الحكومي إحدى أبشع جرائم الاحتلال خلال العام 2022م، إذ اخترقت رصاصة أطلقها جنود الاحتلال رأسه بينما كان المستشفى يستقبل إصابات عدة.

224 فلسطينيًا استهدوا خلال 2022 من بينهم  61 طفلًا

وتواجه مدن الضفة وبالأخص جنين ونابلس، اقتحامات يومية يرتقي فيها شهداء، وتُخلّفُ العديد من الإصابات، ووفقًا لسجلات وزارة الصحة الفلسطينية فإن العام 2022م، هو الأكثر دموية منذ عام 2005م، حيث استشهد 224 فلسطينيًا (171 منهم في الضفة الغربية) حتى تاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول الماضي، من بينهم  61 طفلًا فلسطينيًا قتلهم الاحتلال الإسرائيلي، (44 منهم في الضفة).

وفي السياق،  يرتكب المستوطنون أعمال عنف ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم يوميًا في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس، إذ وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية (أوتشا) 181 هجومًا للمستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، بين 1 كانون الثاني/يناير، و18 نيسان/أبريل 2022 فقط.

مثلًا، وبسبب اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال على سكان القدس المحتلة، سجّل تقرير المحافظة  السنوي حول انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في محافظة القدس للعام 2022م،  ارتقاء 19 شهيدًا، وإصابة 2486 مقدسيًا، حيث استخدمت القوة المفرطة ضد المقدسيين في مختلف أنحاء المحافظة من قبل المستوطنين والجنود، وتركزت غالبية الإصابات في المناطق العلوية من الجسد، ما أدى لتسجيل عشرات الإصابات بالكسور والنزيف الداخلي في الرأس، كما فقد بعض المصابين أعينهم نتيجة الإصابة المباشرة فيها.

وفي أكتوبر، من العام الماضي، شرع الأطباء في الضفة الغربية، في "عصيان طبي" كامل، يشمل إيقاف الخدمة الطبية في جميع المؤسسات والمرافق الصحية الحكومية والخاصة والأهلية والعيادات الخاصة، ذلك ردًا على قرار بقانون أصدره الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ويقضي بتشكيل "نقابة الأطباء الفلسطينيين"، ومجلس تأسيسي لها، ما يعني إلغاء النقابة الحالية، وحلّ مجلسها الذي انتُخب قبل أقل من خمسة أشهر فقط.

ويُذكر أن النقابة في وضعها الحالي، تابعة رسميًا لنقابة الأطباء الأردنية، وهو وضع تاريخي، ما قبل احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية عام 1967م، ويشمل عددًا آخر من النقابات.

وينص القرار بقانون على إنشاء نقابة أطباء، "وكأنه لا توجد نقابة في الأصل"، والأدهى من ذلك، أن القرار بقانون لم ينصّ مثلًا على إجراء انتخابات جديدة في فترة زمنية محدّدة"، بل إن المرسوم الرئاسيّ الذي يقضي بتشكيل نقابة جديدة، شمل أسماءً كُلِّفت بذلك تكليفًا، بدون أي انتخابات، وهذا "يمسّ بسيادة النقابة، وبشؤونها الداخلية".

الأمراض الصعبة

عودةٌ إلى غزة، التي وجراء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ عام 2007م، وصل  تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة في مستشفياتها  لمستوى غير مسبوق، وذلك لأسبابٍ أهمهــا عدم تجديد الأجهــزة الطبيــة المستخدمة، ونقــص الكهربــاء، ونقــص الأدويــة، وعــدم إعـادة تأهيـل المستشفيات والمراكز الطبية التي دُمرت نتيجة العدوان الإسرائيلي.

ويسلّط تدهور المنظومة الصحية جراء هذا الحصار الضوء على المعاناة الكبيرة التي يعيشها بالأخص أصحاب الأمراض المزمنة، ومنهم مرضى الأورام "السرطان"، حيث تفتقر مستشفيات قطاع غزة لإمكانية علاجهم، حيث أن 50% من أدوية العلاج الكيميائي غير موجودة، بينما 40% من الأدوية الأساسية غير متوفرة.

وحسب ما  أفاد مدير مستشفى الصداقة التركي د. صبحي سكيك، "فإن عدد مرضى الأورام في قطاع غزة ارتفع إلى نحو 16 ألف مريض بمعدل 90,8 لكل 100 ألف نسمة، إذ تشخص الصحة 2000 حالة سنويًا"، مبينًا أن هذه البيانات مرشحة للزيادة لتصل إلى 180 حالة لكل 100 ألف نسمة في عام 2040م.

وبشكل عام، يمكن القول إن حصار غزة أدى إلى تراجع خدمات الرعاية الصحية بمعدل 66%، والإسعاف والطوارئ بمعدل 23 %، وغسل الكلى بمعدل 42 %، وجراحة القلب والشرايين بمعدل 66%، وجراحة العظام بمعدل 13%، حسب معطيات صدرت مؤخرًا عن مجلس العلاقات الدولية -فلسطين.

كما أنه وفق بيانات سابقة لوزارة الصحة الفلسطينية، حرم الحصار الإسرائيلي نحو 50% من المرضى من حقوقهم العلاجية التي كفلها القانون الدولي الإنساني داخل القطاع وخارجه.

 نقص الإمكانيات الطبية

بمجرد المرور عابرًا أمام العيادة الخارجية في مستشفى دار الشفاء بغزة، يظهر الاكتظاظ الشديد للمرضى أمام مكاتب الأطباء وغرف الأشعة مدى معاناة المرضى من النقص الحاد في الأجهزة الطبية.

ويقدر مدير دائرة الأشعة والتصوير الفني في الوزارة إبراهيم عباس، عدد المرضى المتضررين يوميًا من نقص أجهزة التصوير الطبي بـ 350 مريضًا في مختلف مستشفيات القطاع.

وذكر عبّاس أن من أهم الأجهزة التي يمنعها الاحتلال الآن هي أجهزة التصوير الطبي بالأشعة، مثل أجهزة السي ار وفلور التي تستخدم أثناء إجراء العمليات للحصول على صورة حية ومباشرة خلال إجراء الجراحة.

ويوضح عباس، أن تلك الأجهزة تُستخدم  أثناء تصحيح الكسور، ووضع البراغي، واللوحات المثبتة المعدنية، التي لا يمكن تثبيتها إلا تحت هذه الأجهزة، "فالعمل دون رؤية قد يترتب عليه أخطاء طبية قد تؤدي إلى البتر أحيانا" وفقًا له.

ويشير عباس إلى منع الاحتلال دخول أجهزة الأشعة الثابتة، الأمر الذي تسبب باكتظاظ المستشفيات بالمراجعين، "فأجهزة التصوير الموجودة في مستشفيات غزة تعاني مشكلات يصعب إصلاحها بسبب عدم توافر قطع الغيار".

ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمنع إدخال 24 جهاز أشعة تشخيصية، إضافة إلى منع إدخال قطع الغيار اللازمة لصيانة أجهزة أخرى متعطلة، وهي مهمة في تقديم التدخلات الطارئة للجرحى في أقسام الطوارئ، والعمليات، والعنايات المكثفة.

في مطلع أغسطس، تجلّى انهيار القطاع الصحي بغزة، على هيئة "عجز" كامل في تقديم الخدمات الطارئة لجرحى عدوانٍ إسرائيليٍ جديد، شنته "إسرائيل" بعد اغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري.

وزارة الصحة، ومنذ اللحظة الأولى لبدء العدوان، أعلنت رفع الجهوزية والاستعداد في كافة المستشفيات، وخاصة أقسام الطوارئ والعمليات والعناية المركزة ومحطات الإسعاف، لكن تركيز الاحتلال استهدافه للمناطق السكنية، رفع عدد الضحايا من الأطفال، والنساء، والمدنيين، وفاقم الإصابات الحرجة.

في ذلك التاريخ، أعلنت الوزارة بغزة، أن الواقع الدوائي يمر بأسوأ حالاته منذ سنوات، حيث وصلت نسبة النقص في الأدوية الأساسية 40%، و32 % من المستهلكات الطبية، و60 % من لوازم المختبرات وبنوك الدم.

ومنذ بداية عهد الحصار، حتى اللحظة، ما زال انقطاع التيار الكهربائي عن قطاع غزة، واعتماد جدول الفصل المساوي لجدول الوصل اليومي، يشكل تهديدًا خطيرًا لعمل الأقسام الحيوية في المستشفيات، لا سيما أقسام الطوارئ، والعناية المركزة، والعمليات، وأقسام الغسيل الكلوي، والمختبرات، وحضانات الأطفال، والمغاسل، وأنظمة الأكسجين، والغازات الطبية، في حين أن أوقات العدوان، وموجات التصعيد الإسرائيلية، تشهد مزاجية واضحة في قضية إدخال الوقود لمحطة تشغيل الكهرباء الرئيسة في قطاع غزة، وهو الأمر الذي يجعل زيادة عدد ساعات القطع أكبر بكثير من المعتاد.

بعد نحو 16 عامًا من الحصار والإغلاق الإسرائيلي "غير القانوني" لقطاع غزة، والواقع الصحي الصعب الذي تنكشف سوءته مع كل عدوان، والاستهداف المباشر للمسعفين، وسيارات الإسعاف، والكادر الطبي، والمستشفيات في الضفة الغربية، يبدو الفلسطينيون أقل تعلقًا بأمل التدخل الدولي للدفاع عن حقوقهم وكرامتهم الإنسانية في عامٍ وصف بـ"الأكثر دموية" منذ عام 2005م.
 

كاريكاتـــــير