غزة:
ما أن تدخل قاعة معرض التراث الفلسطيني الذي تنظمه بلدية غزة في مركز رشاد الشوا الثقافي، حتى يتجه نظرك فورًا نحو سيدةٍ هناك. ملامحها أجنبية صرفة، لكنها تقف أمام مشغولاتها التراثية الفلسطينية!
تقترب منها أكثر، فإذا بك تسمعها تشرح للزوار ما تقدمه في هذه الزاوية بلكنةٍ عربيةٍ مكسرة، فتتأكد نبوءتك، ويزيد شغفك لمعرفة قصتها. "نوى" قابلتها وهذه هي الحكاية:
ألكساندرا، سيدة روسية الجنسية، قادها القدر للعيش في قطاع غزة منذ 25 عامًا، بعد زواجها من شابٍ فلسطينيٍ كان يدرس الطب معها هناك. منذ صغرها كانت تعشق التراث، أيًا كان مسقط رأسه، وكانت ترى في العمل به دعمًا للوجود الإنساني قبل أي شيء وهنا كانت البداية.
تقول: "عندما جئتُ إلى غزة، أحببتُ كثيرًا ما كنت أراه من مطرزات وتراث، جذبني الثوب المطرز، وعشقت دقّة غرزته، وتكويناته الهندسية المميزة، التي تصنع في النهاية نقوشًا أنيقة تزين ملابس النساء بغزة، وهذا ما دفعني إلى طلب تعلمه".
لم تتعلم ألكساندرا الحجار (عائلة زوجها) التي تبلغ من العمر اليوم (46 عامًا) التطريز والمشغولات اليدوية الفلسطينية وحسب، بل أبدعت فيها عندما قررت تطويرها إلى إكسسوارات، أدخلت عليها أنماط ثقافاتٍ أخرى كالروسية والفرعونية أيضًا.
وبينما هي واقفةٌ أمام طاولة مشغولاتها من إكسسوارات الخرز، والميداليات المطرزة، وأغطية الهواتف المحمولة، وغيرها من القطع المطرزة "بالكامل"، كانت مستمتعةً بالحديث إلينا، وسرد قصة وجودها هنا في غزة.
أخبرتنا أنها لم تنهِ تعليمها في تخصص الطب، إذ انشغلت في البيت وتربية الأبناء، لكنها حين كانت تزور معارضًا للتراث، كانت تُعجب بما تراه، وتحدث نفسها عن ضرورة تعلمه، بل وتتخيل قطعًا بصيغةٍ مميزة تصممها في خيالها قبل أن تطبقها على أرض الواقع.
تشرح: "لم أكن أتكلم اللغة العربية بعد، ولكن مع دخول الإنترنت للبيوت بدأتُ بمتابعة الدروس عن التطريز الفلسطيني في مقاطع فيديو، ومع الوقت كنت أُقلّد كل ما أرى، ثم تطور الأمر معي لمقارنة الألوان ببعضها البعض، وإدخال ألوان على أخرى، لتنتج معي في النهاية فعلًا قطع تراثية جميلة".
خلال فترة تعليمها، صنعت ألكساندرا من بيتها مكانًا تراثيًا، فطرزت أغطية المفارش، والمرآة، وحتى علبة أوراق المحارم، والصور، وسلة القمامة. كل ذلك كانت له أغطية مطرزة، وهذا لاقى ترحيبًا كبيرًا من زوجها الطبيب الذي شجعها على الاستمرار، ودعمها برفقة أبنائها.
بعد إتقانها للتطريز، تعلمت الكساندرا تصميم الإكسسوار من خلال الخرز، لكنها واجهت مشكلة كما تقول وهي "عدم توفر أنواع الخرز المطلوبة لجودة المنتج، حيث كنتُ أحضرها من مصر وبتكاليف عالية جدًا". لكنها كانت مصرة على المواصلة لأن الناس أحبوا عملها، وصاروا يطلبونه، لتتاح لها بعد ذلك فرص كثيرة للمشاركة في معارض التراث.
تبتسم لجارتها في المعرض التي نادتها باسم "ساشا"، ثم حملت علم فلسطين مصنوعًا من الخرز ورتبته جيدًا على الرف وإلى جواره خريطة فلسطين، ولدى سؤالها عن سبب مناداتها لها باسم مختلف أجابت: "ساشا هو الكساندرا عندنا في روسيا. في الوطن العربي عادة ينادون فاطمة باسم بطة مع أنه لا علاقة بين الاسمين، وعندنا يندون الكساندرا باسم ساشا".
زيارتها إلى مصر فتحت آفاقها أكثر على توسيع منتجاتها بإدخال إبداع آخر، فقد أحبت النمط الفرعوني في الإكسسوار، حين رأت عقودًا للرقبة من الخرز تعود إلى أكثر من 3500 عامًا، وما زالت جميلة وبالفعل، فعادت إلى قطاع غزة وتدربت عن طريق الانترنت ومن ثم أتقنتها، فلاقت إقبالًا واسعًا من قبل الناس هنا.
تكمل بلهجة مكسرة وهي تضحك: "أبو محمد- أي زوجها- مبسوط كتير من شغلي، ويشجعني ويساعدني أن أستمر".
لكن ساشا لا تنسى التراث الروسي وجماله، وتعقد مقارنة بين التراثين بقولها :"روسيا دولة كبيرة ولكل منطقة تراث يختلف عن الآخر، مثلًا هنا الزي المجدلاوي يختلف عن اليافاوي ويختلف عن الثوب الفلاحي، هناك أيضًا كل منطقة لها تراثها الذي يختلف عن غيره وكله تراث جميل".
وتطمح أم محمد إلى مواصلة عملها وافتتاح مركز تدريب يسهم في توسيع عدد من يشاركن معها ذات الإبداع، ويكون مكانًا للتدريب والتسويق، ولمن يودون زيارة الأماكن التي تضم التراثيات "بغرض التجوّل".