غزة:
إذا كانت هذه هي الحياة، فكيف هو شكل جهنّم؟ أقل ما كان يدور برأس ضحى السقا وهي تتأمل الموت. وهل يتأمل الإنسان فرصة موته؟ تحدثنا.
ربّما هذه هي الحقيقة الثابتة هنا في قطاع غزة، بل إن الواقع أشدّ قسوة حين تقبلت فكرة الموت لكن بشرط أن يكون موتها مقنعاً، بصاروخ موجّه مثلاً، وليس بقذائف المدفعيات العشوائية التي تفتك بأجساد الناس صدفة.
ضحى التي تسكن وسط مدينة غزة، هي أم لطفلين، والأمومة بساحة الحرب أكثر ما يكسر ظهر النساء في هذه البلاد، تقول "لم أخف من الموت، خفت من الفقد. فقد أطفالي وزوجي أو أي عزيز علي كان أكثر ما يقتني حية".
اقرأ/ي أيضًا: لكن الكلمة باقية.. اسرائيل تدمر أكبر دار نشر في غزة
وبينما كانت تحاول الهرب من التفكير بالفقد، كادت أيادي الناس تخلع باب منزلها لإنذارها بالإخلاء لأن الاحتلال أطلق صاروخًا بجانب المنزل وبالتأكيد سيعود لاستهدافه بشكل أكبر.
تخبرنا أن فترة الإنذار التي يمهلها الاحتلال أحياناً للناس للإخلاء، كانت أثقل خمس دقائق مرت بعمرها، لدرجة أنها حملت ابنها ونست الآخر نائماً حتى سألها زوجها الذي اهتم بأمه المسنة أين محمد؟ كالصاروخ عدت لأجلبه – تتابع -.
خمس دقائق بين الحياة والموت الذي يقرره الاحتلال للفلسطينيين في القطاع، تصف الأم شعورها وهي مشردة مع أسرتها وجيرانها النازحين تحت ضربات الصواريخ والمدفعيات "كنت أصرخ وأقول بدناش نموت، كنت أسمع أصوات الناس من حولي تصرخ وتردد الجملة ذاته".
وتزيد "حتى الأطفال الذين حاولوا التحصن بأمهاتهم وآبائهم، كلنا هنا صرنا مرضى نفسيين، لو بقينا العمر نتعالج من هول الحرب لن نشفى".
اقرأ/ي أيضًا:النساء ذوات المرض العضال.. معاناة مضاعفة بسبب العدوان
الحرب، "الحرب تعمل بجد دون أي تعب، تطبِّق أهدافها بشكل كامل دون مواربة. ستخلّف الأرامل والتهجير والمزيد من الأطفال المشوهين". نص ظل حاضرًا بذهني طوال فترة العدوان للشاعر العراقي عمر الجفال.
وفي نص آخر يقول: "ولا هي الحرب إلا مراهقة تركب سيارة فارهة تدهس مجموعة أناس واقفين في إشارة مرورية، ولا يتم إمساكها. إنّها تُعيد الكرّة كل يوم دون رقيب". هكذا تماماً، كانت تمرّ فوق أجسادنا وتدهسنا بقوّة، بل كانت تعود لتمثّل بنا أكثر فأكثر – تتفق وردة – التي فضلت أن نكتب اسمها الناجية وردة.
ما أن تبدو الشمس ذاهبة إلى الغروب حتى تبدأ الناجية بالتقوقع، ترتدي ثوب الصلاة من أجل أن يحفظ أشلاءها من أعين الناس بحال قصفت، تجهز عدّتها من حليب لطفلتها وبعض الماء ثم تحاول التحصن بأي مكان تظنه آمن بمنزلها.
اقرأ/ي أيضًا: إضراب الكرامة يوحّد فلسطين ويصفع "الأسرلة"
تقول: "كنت أكره الليل، أشعر أن جهنم حلت علينا، في الليل تعلو أصوات القصف، تشعرين أنك وحيدة تحت القصف، لا صوت سيارة تواسي خوفك، ولا صوت جار يتمتم مع عائلته ويخبرهم أنها ستمر".
ليل وردة كما أكثر من مليوني إنسان يعيشون في القطاع، لكنها تراه أشرس لأن محاسن موقع منزلها على الشارع العام انقلبت إلى كابوس يرعب صحوتها قبل نومها، فإسرائيل اليوم أخذت تضرب شوارع القطاع الرئيسية وتسقط المنازل على رؤوس ساكنيها – فهل سننال المصير ذاته؟ - تساءلت.
لم ترغب أن تكمل حديثها، تعتقد أنها بحاجة إلى مزيد من الوقت لتستوعب ما حل بها. هي بخير جسدياً، لكنها مدمرة نفسياً. يحاول زوجها عاهد أن يدعمها نفسياً، لكنه يشعر أنه يكذب عليها وعلى نفسه – يخبرنا -.
ويزيد: "نحن لم نخرج من هول الصدمة بعد، نكره حلول المساء، نكره غروب الشمس ونكره الليلة والعتمة وكل شيء يذكرنا بدمار أرواحنا تحت القصف".
جولة صغيرة في أكثر شوارع القطاع حيوية، كفيلة بتدمير أرواح من لم يحضر الحرب ويكون شاهداً مباشراً عليها. أن يخرج سكانها أحياء سالمين جسدياً، مصدومين كيف لهم النجاة من العدوان الرابع، هذه بحد ذاتها قصّة عميقة، تضرب أوتار القلب وتحكي بؤس الناجين بألم. غزّة والحروب، قصتّنا الحزينة – يختم عاهد -.