أثارت دعوة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير -أعلى هيئة قيادية في النظام السياسي الفلسطيني- لندوةٍ حواريةٍ قبل يومين، تحت عنوان "المجتمع الفلسطيني الذي نريد"، نقاشًا وسجالًا مُهمّيْن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر مباشرةً، وأقل ديبلوماسية، من النقاش الذي شهدته قاعة الندوة.
فالقيادة التي تمتلك دفة الحكم -ولو نظرياً- بكل مفاصله التنفيذية والتشريعية والقضائية، تلتقي جمهورها لتحاوره في مواصفات المجتمع الذي تريد أن تقوده، ومحددات المواطن الصالح الذي يجب أن يخضع لهذه القيادة، التي لا تعرف ماذا تريد؟ ولا إلى أين تأخذه؟
وليجلس "المجتمع" بمكوناته على خشبة المسرح، من أجل أن يقول لها -أقصد القيادة- "أي قيادة نريد؟"
المعلقون على وسائل التواصل، اختصروا الكلام "نريد مجتمعاً لا تكونون فيه أنتم على هذه الخشبة".
شخصيًا، تمنيتُ أن تدعو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لندوةٍ حواريةٍ مغايرة، تجلس فيه والصف الأول للأحزاب التي تمثلها على مقاعد الجمهور، وليجلس "المجتمع" بمكوناته على خشبة المسرح، من أجل أن يقول لها -أقصد القيادة- "أي قيادة نريد؟".
نريد قيادةً صامتةً، لا تشجبُ وتستنكرُ وترفع السبابة في وجه الاحتلال كلما اتخذ خطوةً على الأرض، تقوِّضُ المشروعَ الوطني على طريق إنهاء القضية وشعبها "نحن"!
نعم نريد قيادةً قادرةً على ضبط لسانِها، وتحريك عضلاتِها، فعضلةُ الكلام وعضلة الفعل لا تتساويان، تعلموا الصمت يا سادة!
ونحن "المجتمع" الذي تتحدثون عنه، لا نتفق على الكثير، ولكن نتفق على الحد الأدنى مما لا نريد:
لا نريد قيادةً تطل علينا كمحللين سياسيين عبر الفضائيات، أو كمنجمين لما قد يحدث أو لا يحدث، إن كنتم تصنعون القرار ولا تعلمون؛ فأي قيادة أنتم؟! تعلموا الصمت يا سادة!
لا نريد قيادةً عاجزةً عن تطبيق شعاراتها "في المساواة، والعدالة، ومحاربة الفساد" في أوساط أحزابها هي، ثم تأتي لتُنظِّر علينا في ندواتٍ وبياناتٍ مكررة ومنسوخة!
لا نريد قيادةً مرتجفةً أمام قراراتها التي تتخذها هي، ولا يمليها عليها أحد، تقررُ في 2015م وما زالت تقول: "يجب"، يجب على من؟! "يجب وقف التنسيق الأمني"، "يجب منح النساء تمثيلاً لا يقل عن 30% في كل مستويات صنع القرار"، "يجب الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال"، "يجب" و"يجب"، ولا تزال الـ"يجب" مستمرة في 2020م!
لا نريد قيادةً، بل "أعلى هيئة قيادية" يمكنُها أن تجتمع تشاوريًّا في غياب الرئيس –الغائب عن معظم اجتماعاتها أصلًا- وقرارتها في غيابه غير ملزمة، لتخرج ببيانات النسخ واللصق ذاتها!
لا نريد قيادةً تتغنى بالشباب والنساء وقود الحرب والسلام، ثم تصفعُهُم على وجوههم عند أول قرار
لا نريدُ قيادةً تقرر على المنابر الدولية والعربية مستقبلنا، لنعرف قراراتها من وسائل الإعلام والبث المباشر!
لا نريد قيادةً تكتب الأشعار، وتغني للشهداء والأسرى، وتقطع رواتبهم!
لا نريد قيادةً تتغنى بالشباب والنساء وقود الحرب والسلام، ثم تصفعُهُم على وجوههم عند أول قرار، فتتقزم نسبة النساء إلى 14% في حكومة "إنقاذ الوطن"، ويتقزم الشباب في صناعة القرار إلى أقل من 1%!
لا نريد قيادةً تُتخِمُنا بالخطابات الرَّنانة وبنشيد دولةٍ على الورق، ولا تمتلك القدرة على إنهاء انقسامٍ، ولا صد تغوُّلٍ إسرائيليٍ، ولا تحرير أسيرٍ، ولا إزالة حاجزٍ، ولا حتى حماية طفلٍ أو امرأةٍ.. تتآكل الأرض شبرًا شبرًا، والخطابات هي ذاتها!
لا نريد قيادةً تحتفلُ بأكبر صحن تبولة، وأكبر كوفية، وأضخم مئذنة وأفضل صوت، توزع الجنسية الفلسطينية الرمزية كالحلوى على فنانين ومشاهير، وهي تعلم أن معبر الكرامة الذي مروا منه "لا سيادة ولا حكم"!
لا نريد قيادةً تبيعُنا وهم الدولة، وبناء المؤسسات، فتحلُّ المجلس التشريعي بعد تعطيله، وتتدخلُ في القضاء وتشكلُ المحاكم -كيفما اتفق- تصدِرُ المراسيم في خدمة الرأسمالية والمصالح، وتطبعُ ترويسة الدولة على أوراقها الداخلية، وتوقع اتفاقياتها مع الدول باسم سلطة!
لا نريدُ قيادةً أضاعت غزة، وعاقبت أهلها على طاعتهم، وما زالت تستخدمهم رحى لمطحنةٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والتلفزيون الوطني يصدح "أنا من غزة بلد العزة"، لا عزيز في غزة، ذللتموهم وأثقلتم كاهلهم، فكفُّوا عن الغناء لهم، وتعلموا الصمت يا سادة!
أي قيادةٍ نريد؟
نريد قيادةً تسمع، تسمعُ "مجتمعنا" بأذنين، وتنطقُ بلسانٍ واحد، تنطق لتُحدِّثنا نحن، لأننا مصدر الشرعية ولا أحد غيرنا يمنحها حتى في أشدِّ مراحل ضعفنا، وعدم قدرتنا على انتزاعها ولو مؤقتاً!
نريد قيادةً تعي ما يسببه الاحتلال والحصار لنا من تشوهاتٍ نفسية، قبل التشوهات المادية، تتفاعل معنا ونتفاعل معها، تحاورنا في كيفية الخلاص والمواجهة والصمود!
نريد قيادةً تُشاركُ في نقاشنا "الوجودي" مَن يسبقُ مَنْ: إنهاء الاحتلال أم إنهاء الانقسام؟ وأيٌ منهما يؤدي إلى الآخر؟
نريد قيادةً تسمعُ أبناء "مجتمعنا" في الكانتونات التي يعيشون فيها داخل حدود الوطن وخارجه، علّها تفهمُ لِمَ يختبِئ الناس تحت عباءة العشائر؟ وعباءة فصيل لا يعرفون برنامجه؟ وعباءة قائدٍ "بحجم الوطن" يمتلك المال والنفوذ؟
نريد قيادةً تسمعُ شبابنا عند الحدود اليونانية، ما الذي أوصلهم إلى هناك؟ ولماذا يرغب 24% من أقرانهم في الهجرة (18%ممن يرغبون في الهجرة إناث)؟ قيادةٌ تسمع لشبابٍ ربعهم (24%: 33% ذكور، و14% إناث) حاولوا إنشاء مشاريع خاصة، 43% منهم في قطاع غزة، نجحَ منهم 10% فقط في الاستمرار! أرقامٌ وجب على القيادة قراءتها قبل دعوة الشباب إلى "أن يكونوا رياديين، وقادرين على أن يخلقوا لأنفسهم وظيفة، بعيدًا عن النمط الوظيفي الكلاسيكي"!
نريد قيادةً تسمع صوت النساء الفاقدات، والنساء المعنفات، والنساء المعيلات لأسرهن، والنساء اللواتي ينحتن في الصخر لإسماع أصواتهن (12% من الوظائف الحكومية العليا تشغلها النساء)!
نريد قيادةً تسمع أهل القطاع بعيدًا عن التقارير الكيدية، تسمعُ المحالين إلى التقاعد وما زالوا على رأس عملهم، والموظفين المخصومة رواتبهم
نريد قيادةً تسمعُ عُمَّالَنا، وتعرف الحد الأدنى للأجور غير المحصلة، وتفاصيل عملهم في المستوطنات، تسمع من مزارعينا عن هجرة أراضيهم داخل "العنقود الزراعي"، تسمعُ المسافرين عبر معبر رفح، تسمع المرضى الذين يتسولون العلاج!
نريد قيادةً تسمع أهل القطاع بعيدًا عن التقارير الكيدية، تسمعُ المحالين إلى التقاعد وما زالوا على رأس عملهم، والموظفين المخصومة رواتبهم، وأهالي من ماتوا في انتظار تسوية ملفات 2005م، والتصاريح، وتغيير العناوين وعدم الممانعة، وقواعد المرور للدول الشقيقة والصديقة!
هذه ليست دعوة لإسكات القيادة -لا أسكت الله صوتها- نحنُ نريدها أن تحاورنا، تحدثنا، نريدها قيادةً تقرأُ أولًا، قيادةً تسمعُ بقلبٍ مفتوحٍ وصدرٍ واسع، لا تُلوِّحُ بالحجب ولا بالسجن أو التشويه!
قيادةٌ تسأل لتعرف -السؤال ليس عيباً- وتعرف لتجيب بما يلامسنا نحن "المجتمع الذي يريدون" إن أرادوا أن يكونوا "القيادة التي نريد"!
___________
وفاء عبد الرحمن: رئيس تحرير شبكة نوى ومديرة مؤسسة فلسطينيات