شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الخميس 28 مارس 2024م11:31 بتوقيت القدس

اكتشاف الذات في مساحات خارج الحصار

11 يوليو 2017 - 10:22
شبكة نوى، فلسطينيات:

بقلم: هداية شمعون (*)

أصعب الاكتشافات على النفس هي تلك التي تقف بها أمام ذاتك بكل شفافية وصدق، لتعترف أنك إنسان مقهور حتى الموت...!! مقهور بأنفاسك التي تعدها كلما اقتربت من حدود بلادك...!! في رحلتنا إلى السويد كنا خمسة فلسطينيات من غزة والقدس وبيت لحم والخليل ورام الله التقينا في البدء خارج حدود بلادنا، فكل منا تملك بطاقة هوية مختلفة عن الأخرى بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وكل منا تملك تصريحا للتحرك في بلادها بلون مختلف وفق الموافقة الإسرائيلية، وكل منا تتعرف بدهشة على ملامح معاناة ابنة وطنها بتفاصيل لا تعترف بها الجغرافيا ولا تقرها إلا السياسة الغبية التي تلغي انسانيتنا وتجعلنا مجرد أرقام على برنامج كمبيوتر يحدد تحركاتنا ووجهتنا.. بل أننا نكتشف ذاتنا الفلسطينية في بلاد عربية وأجنبية كما الطفل في رحلته الأولى.. وربما نعتبر محظوظات في بلادنا فلسطين فهنالك الآلاف من النساء لا يملكن تصاريح ولا يمكنهن التنقل أو الحركة بحرية داخل بلدهن.!!

 التقيت بشريكتين في عمان بعد أن غادرت قبل الجميع مبكرا بيومين لأسباب جغرافية أيضا تتعلق بقدرة الحصول على تصريح للخروج من غزة.!! غزة الموصدة بأبواب السجن الكبير فلا مفر إلا عن معبرين معبر ايرز والآخر معبر رفح المصري، وكأنك وقعت في الفخ فكلاهما لا يعملان بشكل طبيعي أبدا ..إنها أسوار السجن حين تمتد طيلة الوقت فتجعلك سجينا في مساحة محددة، فيبدو لك كالحلم كلما أفلحت في رفرفة جناحيك ولو لمرات قليلة..!

في عمان وبعد المرور من جسر الأردن غادرنا إلى برلين ثم ستوكهولم حيث كانت الدهشة الكبيرة لامرأة يقارب عمرها الخمسين وهي تتأمل الطائرة الكبيرة الضخمة التي ستقلنا إلى برلين ثم نستبدلها بأخرى للسفر إلى ستوكهولم.. هي أشبه بدهشة الطفل حين تعرض عليه لعبة جديدة للمرة الأولى وقد تركت خلفها شباب وشابات غادروا مرحلة الطفولة ولم تعانق أعينهم طائرة حقيقية يمكنهم رؤيتها، فكانت توثق كل لحظة في رحلتنا بالفيديو وتنقلها مباشرة لعائلتها كلما أتيحت لها فرصة.. علها تروي ظمأ العطش للسفر والحرية ولو بالقليل واستجابة منها لمطالبتهم الدائمة بإرسال صور الطائرة والسماء والغيوم والتشوق لمعرفة البلاد المجهولة.. وأسئلتهم التي لا تنتهي كيف يبدو الناس يحبونكم أم لا؟؟كيف تبدو الشوارع؟ المباني. وسائل النقل؟! فباتت صديقتنا تسجل بالفيديو أي مشهد أي شيء تراه في الجامعة أو الشارع أو القطار أو الترام... كانت دهشة الحياة الأولى والتجربة الأولى، إنها أشبه بمغادرتك باب السجن لسنوات عمرك بأكملها. أسوأ شعور أن تشعر أنك بت سجينا في وطنك الذي ولدت وتربيت فيه وتنتمي إليه بعد أن حوله الاحتلال إلى كنتونات وسجون صغيرة ومئات الحواجز في وجهك كلما فكرت بالتنقل لتجعل حياتك جحيما وتجعلك مطارد دون أي سبب!!..

 تغيب بعقلها وروحها كثيرا عنا، هي تفكر بابنها الأسير المضرب عن الطعام منذ شهر..!! فجأة لا نجدها بجانبنا فجأة تختفي.. وتجلس مستكينة في ركن ما تفكر في حياتها؟!! وحياة ابنها المعرضة للخطر؟؟ فجأة تقول هل هذه حياة التي نحياها؟؟ لماذا نحن مقبورون في بلادنا؟؟!!

في ستوكهولم اجتمعنا خمستنا أخيرا لنبدأ جولتنا ..!! ولكن السؤال الأكثر قسوة والذي ظل يلح على قلوبنا قبل عقولنا.. لماذا نحن غرباء في بلدنا؟؟ لماذا كل منا تعاني من بداية يومها لنهايته غزة الخليل القدس بيت لحم معاناتنا تعيش بداخلنا ننقلها للآخر المتعطش لسماعها والمتضامن بكل إنسانية ليعيد لنا بعض الأمل الذي بدأنا نفقده...!

بكينا في محطات كثيرة فكلما روينا قصتنا وجدنا أننا وحدنا بلا سند فلسطيني حقيقي.. السند بداخلنا لبعضنا البعض وبالقلوب المتضامنة مع قضيتنا الإنسانية والتي جعلتنا نفكر كثيرا.. أين هي سفاراتنا الفلسطينية مما يحدث في بلادنا؟؟ أين هم ممثلين فلسطين في أوروبا وغيرها من نقل وتجسيد كل ما نعانيه بسبب الاحتلال وتشتتنا؟؟! ولماذا نعاني وحدنا على الحواجز والمعابر والدمار الذي أصاب بيوتنا وأجسادنا وجعلنا في بؤس واحباط مريع...!

لقد رأينا ذواتنا خارج أسوار السجن الكبير الذي نعيشه في فلسطين، رأينا كم نحن نعاني ونتألم في صحونا ونومنا وتحركنا رأينا كم الإجرام لإنسانيتنا المهدورة لدرجة أننا لم نستطيع أن نعيش عدة أيام بشكل طبيعي لأن قلوبنا مليئة بالوجع والحصار والقهر بسبب سياسات الاحتلال وتفتيته لهويتنا الفلسطينية.!! لقد رأينا أننا قد بلغنا حدا كبيرا من النضال بالكلمة والصورة ولكنا لانزال نراوح مكاننا، لقد رأينا القوة التي بداخلنا والتي تجعلنا نساء قويات لكن هذا لا ينفي أننا جرحنا في كرامتنا، وفي إنسانيتنا فحين نتعرض للتفتيش القهري على الحواجز، وحين تحرم أم الأسير من رؤية ابنها الأسير وحين لا تنسي أبدا أم الشهيد حين خطفوا ابنها وحرقوه وهو لازال طفلا ولم تودعه قبل دفنه لأن شيئا لم يتبق من جسده...!! نعم تألمنا وبكينا في جولتنا وشعرنا كم القهر الذي لا زلنا نعيشه ولا نعرف متى سنتخلص منه.!!

لكنا أيضا وجدنا قلوبا تحبنا أكثر مما نحب أنفسنا الآن..! لأن مشاعرنا تبلدت بسبب الألم اليومي، وجدنا كم الأيدي الراقية التي صافحتنا وتشعر بوجعنا وألمنا، وجدنا في عيون الشباب والشابات الأغراب حبا وتضامنا جعلتنا نشعر أنهم أبناءنا وبناتنا، لقد شعرنا بالحزن على أنفسنا وعلى واقعنا الفلسطيني، وشعرنا بأننا في مكان على سفح جبل لا يشعر بنا العالم لكن في السويد عرفنا أنفسنا أكثر واكتشفنا أننا لازلنا نحتفظ بإنسانيتنا وكرامتنا وأننا نساء قويات بإمكاننا أن نصنع التغيير بشكل يوما ما..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية 

كاريكاتـــــير